مولده ونشأته :
وُلد أبو محمد الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن الحكم الثقفي في منازل ثقيف بمدينة الطائف، في عام الجماعة 41هـ. و كان اسمه كليب ثم أبدله بالحجاج. و أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي الصحابي الشهيد.
نشأ في الطائف، و تعلم القرآن و الحديث و الفصاحة، ثم عمل في مطلع شبابه معلم صبيان مع أبيه، يعلم الفتية القرآن و الحديث، و يفقههم في الدين، لكنه لم يكن راضياً بعمله هذا، على الرغم من تأثيره الكبير عليه، فقد اشتهر بتعظيمه للقرآن.
كانت الطائف تلك الأيام بين ولاية عبد الله بن الزبير، و بين ولاية الأمويين، لكن أصحاب عبد الله بن الزبير تجبروا على أهل الطائف، فقرر الحجاج الإنطلاق إلى الشام، حاضرة الخلافة الأموية المتعثرة، التي تركها مروان بن الحكم نهباً بين المتحاربين. و قد تختلف الأسباب التي دفعت الحجاج إلى اختيار الشام مكاناً ليبدأ طموحه السياسي منه رغم بعد المسافة بينها و بين الطائف، و قرب مكة إليه، لكن يُعتقد أن السبب الأكبر كراهته لولاية عبد الله بن الزبير.
و في الشام، التحق بـ شرطة الإمارة التي كانت تعاني من مشاكل جمة، منها سوء التنظيم، و استخفاف أفراد الشرطة بالنظام، و قلة المجندين. فأبدى حماسة و انضباطاً، و سارع إلى تنبيه أولياء الأمر لكل خطأ أو خلل، و أخذ نفسه بالشدة، فقربه روح بن زنباع قائد الشرطة إليه، و رفع مكانته، و رقاه فوق أصحابه، فأخذهم بالشدة، و عاقبهم لأدنى خلل، فضبطهم، و سير أمورهم بالطاعة المطلقة لأولياء الأمر.
لمس فيه روح بن زنباع العزيمة و القوة الماضية، فقدمه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، و كان داهية مقداماً، جمع الدولة الأموية و حماها من السقوط، فأسسها من جديد.
إذ أن الشرطة كانت في حالة سيئة، و قد استهون جند الإمارة عملهم فتهاونوا، فأهم أمرهم عبد الملك بن مروان، و عندها أشار عليه روح بن زنباع بتعيين الحجاج عليهم، فلما عينه، أسرف في عقوبة المخالفين، و ضبط أمور الشرطة، فما عاد منهم تراخ، و لا لهو. إلا جماعة روح بن زنباع، فجاء الحجاج يوماً على رؤوسهم و هم يأكلون، فنهاهم عن ذلك في عملهم، لكنهم لم ينتهوا، و دعوه معهم إلى طعامهم، فأمر بهم، فحبسوا، و أحرقت سرادقهم. فشكاه روح بن زنباع إلى الخليفة، فدعا الحجاج و سأله عما حمله على فعله هذا، فقال إنما أنت من فعل يا أمير المؤمنين، فأنا يدك و سوطك، و أشار عليه بتعويض روح بن زنباع دون كسر أمره.
و كان عبد الملك بن مروان قد قرر تسيير الجيوش لمحاربة الخارجين على الدولة، فضم الحجاج إلى الجيش الذي قاده بنفسه لحرب مصعب بن الزبير.
و لم يكن أهل الشام يخرجون في الجيوش، فطلب الحجاج من الخليفة أن يسلطه عليهم، ففعل. فأعلن الحجاج أن أيما رجل قدر على حمل السلاح و لم يخرج معه، أمهله ثلاثاً، ثم قتله، و أحرق داره، و انتهب ماله، ثم طاف بالبيوت باحثاًً عن المتخلفين.
و بدأ الحجاج بقتل أحد المعترضين عليه، فأطاع الجميع، و خرجوا معه، بالجبر لا الإختيار.
حرب مكة
في 73هـ قرر عبد الملك بن مروان التخلص من عدوه و منافسه عبد الله بن الزبير إلى الأبد، فجهز جيشاً ضخماً لمنازلة ابن الزبير في مكة، و أمر عليه الحجاج بن يوسف، فخرج بجيشه إلى الطائف، و انتظر الخليفة ليزوده بمزيد من الجيوش، فتوالت الجيوش إليه حتى تقوى تماماً، فسار إلى مكة و حاصر ابن الزبير فيها، و نصب المنجنيقات على جبل أبي قبيس و على قعيقعان و نواحي مكة كلها ، و دامت الحرب أشهراً، فتفرق على ابن الزبير أصحابه، و وقعت فيهم الهزيمة. أعلن الحجاج الأمان لمن سلم من أصحاب ابن الزبير، و أمنه هو نفسه، غير أن عبد الله بن الزبير لم يقبل أمان الحجاج، و قاتل رغم تفرق أصحابه عنه طمعاً في أمان الحجاج فقتل.
و كان لابن الزبير اثنتان و سبعون سنة، و ولايته تنوف عن ثماني سنين، و للحجاج اثنتان و ثلاثون سنة.
ولاية الحجاج على الحجاز
بعد أن انتصر الحجاج في حربه على ابن الزبير، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة، و على ولاية الحجاز كله، فكرهه أهل مكة.
و كان الحجاج و أهل مكة و المدينة على خلاف كبير، و قيل أن عبد الله بن عمر توفي في عام 74هـ، و قبل ذلك أمر أن يدفنوه ليلاً، و لا يعلموا الحجاج لئلا يصلي عليه.
و في 75 هـ حج عبد الملك بن مروان، و خطب على منبر النبي، فعزل الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات فيه، و أقره على العراق.
أوج الحجاج: ولاية العراق
دامت ولاية الحجاج على العراق عشرين عاماً، و فيها مات.
و كانت العراق عراقين، البصرة و الكوفة، فنزل الحجاج بالكوفة، و كان قد أرسل من أمر الناس بالاجتماع في المسجد، ثم دخل المسجد ملثماًً بعمامة حمراء، و اعتلى المنبر فجلس و اصبعه على فمه ناظراً إلى المجتمعين في المسجد فلما ضجوا من سكوته خلع عمامته فجأة و قال خطبته المشهورة التي بدأها بقول ثمامة بن سحيل:
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا/ متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال:
أما و الله فإني لأحمل الشر بثقله و أحذوه بنعله و أجزيه بمثله، أما و الله إني لأرى رؤوساً قد أينعت و حان قطافها، و إني لصاحبها، و كأنني أرى الدم بين العمائم و اللحى.
إلى آخر خطبته التي بين فيها سياسته الشديدة، و بين فيها شخصيته، كما ألقى بها الرعب في قلوب أهل العراق.
و من العراق حكم الحجاج الجزيرة العربية، فكانت اليمن و البحرين و الحجاز، و أيضاً خراسان من المشرق تتبعه، فقاتل الخوارج، و الثائرين على الدولة الأموية في معارك كثيرة، و كانت له الغلبة عليهم في كل الحروب.
و أمعن في الظلم و التجبر، فصادر كل الحريات، بما فيها حرية الكلام عن طريق استخباراته، و حبس الناس، و أمعن في تشريدهم و قتلهم، و منع الأعراب من الهجرة إلى المدن، و بنى واسط، فجعلها عاصمته.
حروب الخوارج
في عام 76هـ وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي لقتال شبيب الشيباني، فكانت الغلبة لشبيب. و في السنة التي تليها بعث الحجاج لحرب شبيب: عتاب بن ورقاء الرباحي، الحارث بن معاوية الثقفي، أبو الورد البصري، طهمان مولى عثمان. فاقتتلوا مع شبيب في سواد الكوفة، فقتلوا جميعاً، و عندها قرر الحجاج الخروج بنفسه، فاقتتل مع شبيب أشد القتال، و تكاثروا على شبيب فانهزم و قتلت زوجته غزالة، فهرب شبيب إلى الأهواز، و تقوى فيها، غير أن فرسه تعثر به في الماء و عليه الدروع الثقيلة فغرق. و قضى الحجاج على من بقي من أصحابه.
و في 79 أو 80 هـ قُتل قطري بن الفجاءة رأس الخوارج، و أُتي الحجاج برأسه، بعد حرب طويلة.
ولاية الوليد
مات عبد الملك بن مروان في 86هـ، و تولى ابنه الوليد بعده، فأقر الحجاج على كل ما أقره عليه أبوه، و قربه منه أكثر، فاعتمد عليه، و كان الوليد ميالاً إلى البطش بالناس و سفك الدماء، فوافقت سياسته سياسة الحجاج، و كان ذلك على كره من أخيه و ولي عهده سليمان بن عبد الملك، و ابن عمه عمر بن عبد العزيز.
و في ولاية الوليد هدد سليمان بن عبد الملك الحجاج إذا ما تولى الحكم بعد أخيه، فرد عليه الحجاج مستخفاً مما زاد في كره سليمان له، و لمظالمه.
و إذ ذاك كان قتيبة بن مسلم يواصل فتوحه في المشرق، فظفر بأهل طالقان و قتل منهم مقتلة لم يسمع بمثلها من قبل، و كان الحجاج من سيره إلى تلك البلاد.
موت الحجاج
مات الحجاج ليلة السابع و العشرين من رمضان عام 95هـ في الروايات المجمع عليها، و كان موت الحجاج بسرطان المعدة، و قبلها مرض مرضاً شديداً، حتى كان يشعر بالبرد و لو قربوه من النار حتى تكاد تحرق بعض ثيابه، و قيل أن الدود أكل بطنه، فأمر الوليد بن عبد الملك أن يُدعى للحجاج بالشفاء على المنابر في كل الدولة.
ترك الحجاج وصيته، و فيها قال أنه لا يعرف سوى طاعة الله و الوليد عليها يحيا، و عليها يموت.<br و تمثل عند احتضاره بهذين البيتين:
يا رب قد حلف الأعداء و اجتهدوا/ أيمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم/ ما ظنهم بعظيم العفو غفار
و دُفن في قبر غير معروف المحلة في واسط، فتفجع عليه الوليد، و جاء إليه الناس من كل الأمصار يعزونه في موته، و كان يقول: كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله.
ميراث الحجاج
بنى الحجاج واسط، و سير الفتوح لفتح المشرق، أمر بتنقيط المصحف، خطط الدولة، و حفظ أركانها قامعاً كل الفتن.
غير أن الحجاج خلف أيضاً ميراثاً من الظلم و سفك الدماء لم يسبق له مثيل.
و يراه الباحثون في التاريخ السياسي نموذجاً للطاغية الظالم سفاك الدماء، و يرى المؤرخون في هذا أنه كان يتشبه بـ زياد بن أبيه في حزمه، فأبار و أهلك.
مذهبه في الحكم
كان الحجاج يرى بتكفير الخارج على السلطان، و طرده من الملة، و في ذلك قال لـ قطري بن الفجاءة في رسالة أرسلها له:
"فإنك قد مرقت من الدين مروق السهم من الرمية"
و قيل بعد موته أن رجلاً رفض الصلاة خلف إمامه، و قال ما أصلي خلف خارجي، فقال له أحد أئمة البصرة: إنما تصلي لله ليس له، و إنما كنا نصلي خلف الحروري الأزرقي.
قال: و من ذاك؟
قال: الحجاج بن يوسف، فإنك إن خالفته سماك كافراً و أخرجك من الملة، فذاك مذهب الحرورية الأزارقة. و بالغ الحجاج في شأن الطاعة، و قمع همم الناس، و نفوسهم، و غاياتهم، فوافق الأمويين في أعمالهم، و أذهب بين الناس أن الخلافة اصطفاء من الله، فلا يجوز الخروج على السلطان، و أما من خرج فقد حل دمه، و سُمي كافراً.
و شاع مذهب الحجاج في تكفير الخارج على السلطان بعده شيوعاً كبيراً، و كان قد ابتدأ قبله، لكنه ثبته. و ثبت فكرة الإصطفاء، و الحق الإلهي، و بالغ في تعظيم السلطان.
الحجاج و أهل العراق و الشام
العلاقة بين الحجاج و أهل العراق هي من أكثر العلاقات تعقيداً و طرافة، و من أكثرها ترويعاً في التاريخ الإسلامي، فالحجاج وُلي على العراق كارهاً لأهلها، و هُم له كارهون، و استمرت العلاقة بينهم كزواج كاثوليكي بالإجبار، لا يجوز فيه الطلاق، و لا أمل للفكاك منه إلا بموت أحد الزوجين.
و كان الحجاج دائم السب لأهل العراق في خطبه، فكثيرة خطبه التي يذكر فيها أهل العراق بشكل سيئ، و التي يرى فيها العراقيون إساءة إلى اليوم.
فدائماً كان يذكرهم:
"يا أهل العراق، يا أهل الشقاق و النفاق...." إلى آخر خطبه، و التي يمعن فيها في ذكر صفاتهم:
"فإنكم قد اضجعتم في مراقد الضلالة..." ، و غير ذلك من الخطب الكثيرة فيهم، كراهة منه لهم، و كراهة منه لهم.
و من ذلك أنه لما أراد الحج استخلف ابنه محمد عليهم، و خطب فيهم أنه أوصى ولده بهم بغير وصية الرسول في الأنصار، أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم، فقد أوصاه ألا يقبل من محسنهم، و لا يتجاوز عن مسيئهم، و قال لهم: أعلم أنكم تقولون مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفكم لي، لا أحسن الله لك الصحابة، و أرد عليكم: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
و أنهم شمتوا به يوم فُجع بولده محمد، و أخيه محمد في نفس اليوم، فخطب فيهم متوعداً إياهم.
و من ذلك أنه مرض فشاع بين الناس موته، فخرج أهل العراق محتفلين بموته، غير أنه قام من مرضه ليخطب فيهم خطبة قال فيها: "و هل أرجو الخير كله إلا بعد الموت"
أما أهل الشام فكانوا أكثر الناس محبة للحجاج، و أكثرهم نصرة له، و بكاء عليه بعد مماته، و قيل أنهم كانوا يقفون على قبره فيقولون رحم الله أبا محمد.
و كان الحجاج محباً له، دائم الإشادة بخصالهم، و الرفع من مكانتهم، و كان كثير الاستنصار بهم، و معظم جيشه كان منهم، و كان رفيقاً بهم.
وصف تاريخي
كان الحجاج بن يوسف بليغاً فصيحاً، محباً للشعر كثير الاستشهاد به، تقياً، مُعظماً للقرآن و آياته، كريماً، شجاعاً، و له مقحمات عظام و أخبار مهولة.
كان أخفش العينين، أضفعت بصره كثرة النظر في الدفاتر، كان يتزيا بزي الشطار، فيرجل شعره و يخضب أطرافه.
و كان يصعد على المنبر فيتكلم بكلام الملائكة، و ينزل فيفعل فعل الشياطين.
المراجع
البداية و النهاية – ابن كثير
مروج الذهب – المسعودي
تاريخ الخلفاء – السيوطي
العقد الفريد – ابن عبد ربه
دائرة المعارف الإسلامية
و مراجعأخرىمتنوعة
... منقول .
.
وُلد أبو محمد الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن الحكم الثقفي في منازل ثقيف بمدينة الطائف، في عام الجماعة 41هـ. و كان اسمه كليب ثم أبدله بالحجاج. و أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي الصحابي الشهيد.
نشأ في الطائف، و تعلم القرآن و الحديث و الفصاحة، ثم عمل في مطلع شبابه معلم صبيان مع أبيه، يعلم الفتية القرآن و الحديث، و يفقههم في الدين، لكنه لم يكن راضياً بعمله هذا، على الرغم من تأثيره الكبير عليه، فقد اشتهر بتعظيمه للقرآن.
كانت الطائف تلك الأيام بين ولاية عبد الله بن الزبير، و بين ولاية الأمويين، لكن أصحاب عبد الله بن الزبير تجبروا على أهل الطائف، فقرر الحجاج الإنطلاق إلى الشام، حاضرة الخلافة الأموية المتعثرة، التي تركها مروان بن الحكم نهباً بين المتحاربين. و قد تختلف الأسباب التي دفعت الحجاج إلى اختيار الشام مكاناً ليبدأ طموحه السياسي منه رغم بعد المسافة بينها و بين الطائف، و قرب مكة إليه، لكن يُعتقد أن السبب الأكبر كراهته لولاية عبد الله بن الزبير.
و في الشام، التحق بـ شرطة الإمارة التي كانت تعاني من مشاكل جمة، منها سوء التنظيم، و استخفاف أفراد الشرطة بالنظام، و قلة المجندين. فأبدى حماسة و انضباطاً، و سارع إلى تنبيه أولياء الأمر لكل خطأ أو خلل، و أخذ نفسه بالشدة، فقربه روح بن زنباع قائد الشرطة إليه، و رفع مكانته، و رقاه فوق أصحابه، فأخذهم بالشدة، و عاقبهم لأدنى خلل، فضبطهم، و سير أمورهم بالطاعة المطلقة لأولياء الأمر.
لمس فيه روح بن زنباع العزيمة و القوة الماضية، فقدمه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، و كان داهية مقداماً، جمع الدولة الأموية و حماها من السقوط، فأسسها من جديد.
إذ أن الشرطة كانت في حالة سيئة، و قد استهون جند الإمارة عملهم فتهاونوا، فأهم أمرهم عبد الملك بن مروان، و عندها أشار عليه روح بن زنباع بتعيين الحجاج عليهم، فلما عينه، أسرف في عقوبة المخالفين، و ضبط أمور الشرطة، فما عاد منهم تراخ، و لا لهو. إلا جماعة روح بن زنباع، فجاء الحجاج يوماً على رؤوسهم و هم يأكلون، فنهاهم عن ذلك في عملهم، لكنهم لم ينتهوا، و دعوه معهم إلى طعامهم، فأمر بهم، فحبسوا، و أحرقت سرادقهم. فشكاه روح بن زنباع إلى الخليفة، فدعا الحجاج و سأله عما حمله على فعله هذا، فقال إنما أنت من فعل يا أمير المؤمنين، فأنا يدك و سوطك، و أشار عليه بتعويض روح بن زنباع دون كسر أمره.
و كان عبد الملك بن مروان قد قرر تسيير الجيوش لمحاربة الخارجين على الدولة، فضم الحجاج إلى الجيش الذي قاده بنفسه لحرب مصعب بن الزبير.
و لم يكن أهل الشام يخرجون في الجيوش، فطلب الحجاج من الخليفة أن يسلطه عليهم، ففعل. فأعلن الحجاج أن أيما رجل قدر على حمل السلاح و لم يخرج معه، أمهله ثلاثاً، ثم قتله، و أحرق داره، و انتهب ماله، ثم طاف بالبيوت باحثاًً عن المتخلفين.
و بدأ الحجاج بقتل أحد المعترضين عليه، فأطاع الجميع، و خرجوا معه، بالجبر لا الإختيار.
حرب مكة
في 73هـ قرر عبد الملك بن مروان التخلص من عدوه و منافسه عبد الله بن الزبير إلى الأبد، فجهز جيشاً ضخماً لمنازلة ابن الزبير في مكة، و أمر عليه الحجاج بن يوسف، فخرج بجيشه إلى الطائف، و انتظر الخليفة ليزوده بمزيد من الجيوش، فتوالت الجيوش إليه حتى تقوى تماماً، فسار إلى مكة و حاصر ابن الزبير فيها، و نصب المنجنيقات على جبل أبي قبيس و على قعيقعان و نواحي مكة كلها ، و دامت الحرب أشهراً، فتفرق على ابن الزبير أصحابه، و وقعت فيهم الهزيمة. أعلن الحجاج الأمان لمن سلم من أصحاب ابن الزبير، و أمنه هو نفسه، غير أن عبد الله بن الزبير لم يقبل أمان الحجاج، و قاتل رغم تفرق أصحابه عنه طمعاً في أمان الحجاج فقتل.
و كان لابن الزبير اثنتان و سبعون سنة، و ولايته تنوف عن ثماني سنين، و للحجاج اثنتان و ثلاثون سنة.
ولاية الحجاج على الحجاز
بعد أن انتصر الحجاج في حربه على ابن الزبير، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة، و على ولاية الحجاز كله، فكرهه أهل مكة.
و كان الحجاج و أهل مكة و المدينة على خلاف كبير، و قيل أن عبد الله بن عمر توفي في عام 74هـ، و قبل ذلك أمر أن يدفنوه ليلاً، و لا يعلموا الحجاج لئلا يصلي عليه.
و في 75 هـ حج عبد الملك بن مروان، و خطب على منبر النبي، فعزل الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات فيه، و أقره على العراق.
أوج الحجاج: ولاية العراق
دامت ولاية الحجاج على العراق عشرين عاماً، و فيها مات.
و كانت العراق عراقين، البصرة و الكوفة، فنزل الحجاج بالكوفة، و كان قد أرسل من أمر الناس بالاجتماع في المسجد، ثم دخل المسجد ملثماًً بعمامة حمراء، و اعتلى المنبر فجلس و اصبعه على فمه ناظراً إلى المجتمعين في المسجد فلما ضجوا من سكوته خلع عمامته فجأة و قال خطبته المشهورة التي بدأها بقول ثمامة بن سحيل:
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا/ متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال:
أما و الله فإني لأحمل الشر بثقله و أحذوه بنعله و أجزيه بمثله، أما و الله إني لأرى رؤوساً قد أينعت و حان قطافها، و إني لصاحبها، و كأنني أرى الدم بين العمائم و اللحى.
إلى آخر خطبته التي بين فيها سياسته الشديدة، و بين فيها شخصيته، كما ألقى بها الرعب في قلوب أهل العراق.
و من العراق حكم الحجاج الجزيرة العربية، فكانت اليمن و البحرين و الحجاز، و أيضاً خراسان من المشرق تتبعه، فقاتل الخوارج، و الثائرين على الدولة الأموية في معارك كثيرة، و كانت له الغلبة عليهم في كل الحروب.
و أمعن في الظلم و التجبر، فصادر كل الحريات، بما فيها حرية الكلام عن طريق استخباراته، و حبس الناس، و أمعن في تشريدهم و قتلهم، و منع الأعراب من الهجرة إلى المدن، و بنى واسط، فجعلها عاصمته.
حروب الخوارج
في عام 76هـ وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي لقتال شبيب الشيباني، فكانت الغلبة لشبيب. و في السنة التي تليها بعث الحجاج لحرب شبيب: عتاب بن ورقاء الرباحي، الحارث بن معاوية الثقفي، أبو الورد البصري، طهمان مولى عثمان. فاقتتلوا مع شبيب في سواد الكوفة، فقتلوا جميعاً، و عندها قرر الحجاج الخروج بنفسه، فاقتتل مع شبيب أشد القتال، و تكاثروا على شبيب فانهزم و قتلت زوجته غزالة، فهرب شبيب إلى الأهواز، و تقوى فيها، غير أن فرسه تعثر به في الماء و عليه الدروع الثقيلة فغرق. و قضى الحجاج على من بقي من أصحابه.
و في 79 أو 80 هـ قُتل قطري بن الفجاءة رأس الخوارج، و أُتي الحجاج برأسه، بعد حرب طويلة.
ولاية الوليد
مات عبد الملك بن مروان في 86هـ، و تولى ابنه الوليد بعده، فأقر الحجاج على كل ما أقره عليه أبوه، و قربه منه أكثر، فاعتمد عليه، و كان الوليد ميالاً إلى البطش بالناس و سفك الدماء، فوافقت سياسته سياسة الحجاج، و كان ذلك على كره من أخيه و ولي عهده سليمان بن عبد الملك، و ابن عمه عمر بن عبد العزيز.
و في ولاية الوليد هدد سليمان بن عبد الملك الحجاج إذا ما تولى الحكم بعد أخيه، فرد عليه الحجاج مستخفاً مما زاد في كره سليمان له، و لمظالمه.
و إذ ذاك كان قتيبة بن مسلم يواصل فتوحه في المشرق، فظفر بأهل طالقان و قتل منهم مقتلة لم يسمع بمثلها من قبل، و كان الحجاج من سيره إلى تلك البلاد.
موت الحجاج
مات الحجاج ليلة السابع و العشرين من رمضان عام 95هـ في الروايات المجمع عليها، و كان موت الحجاج بسرطان المعدة، و قبلها مرض مرضاً شديداً، حتى كان يشعر بالبرد و لو قربوه من النار حتى تكاد تحرق بعض ثيابه، و قيل أن الدود أكل بطنه، فأمر الوليد بن عبد الملك أن يُدعى للحجاج بالشفاء على المنابر في كل الدولة.
ترك الحجاج وصيته، و فيها قال أنه لا يعرف سوى طاعة الله و الوليد عليها يحيا، و عليها يموت.<br و تمثل عند احتضاره بهذين البيتين:
يا رب قد حلف الأعداء و اجتهدوا/ أيمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم/ ما ظنهم بعظيم العفو غفار
و دُفن في قبر غير معروف المحلة في واسط، فتفجع عليه الوليد، و جاء إليه الناس من كل الأمصار يعزونه في موته، و كان يقول: كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله.
ميراث الحجاج
بنى الحجاج واسط، و سير الفتوح لفتح المشرق، أمر بتنقيط المصحف، خطط الدولة، و حفظ أركانها قامعاً كل الفتن.
غير أن الحجاج خلف أيضاً ميراثاً من الظلم و سفك الدماء لم يسبق له مثيل.
و يراه الباحثون في التاريخ السياسي نموذجاً للطاغية الظالم سفاك الدماء، و يرى المؤرخون في هذا أنه كان يتشبه بـ زياد بن أبيه في حزمه، فأبار و أهلك.
مذهبه في الحكم
كان الحجاج يرى بتكفير الخارج على السلطان، و طرده من الملة، و في ذلك قال لـ قطري بن الفجاءة في رسالة أرسلها له:
"فإنك قد مرقت من الدين مروق السهم من الرمية"
و قيل بعد موته أن رجلاً رفض الصلاة خلف إمامه، و قال ما أصلي خلف خارجي، فقال له أحد أئمة البصرة: إنما تصلي لله ليس له، و إنما كنا نصلي خلف الحروري الأزرقي.
قال: و من ذاك؟
قال: الحجاج بن يوسف، فإنك إن خالفته سماك كافراً و أخرجك من الملة، فذاك مذهب الحرورية الأزارقة. و بالغ الحجاج في شأن الطاعة، و قمع همم الناس، و نفوسهم، و غاياتهم، فوافق الأمويين في أعمالهم، و أذهب بين الناس أن الخلافة اصطفاء من الله، فلا يجوز الخروج على السلطان، و أما من خرج فقد حل دمه، و سُمي كافراً.
و شاع مذهب الحجاج في تكفير الخارج على السلطان بعده شيوعاً كبيراً، و كان قد ابتدأ قبله، لكنه ثبته. و ثبت فكرة الإصطفاء، و الحق الإلهي، و بالغ في تعظيم السلطان.
الحجاج و أهل العراق و الشام
العلاقة بين الحجاج و أهل العراق هي من أكثر العلاقات تعقيداً و طرافة، و من أكثرها ترويعاً في التاريخ الإسلامي، فالحجاج وُلي على العراق كارهاً لأهلها، و هُم له كارهون، و استمرت العلاقة بينهم كزواج كاثوليكي بالإجبار، لا يجوز فيه الطلاق، و لا أمل للفكاك منه إلا بموت أحد الزوجين.
و كان الحجاج دائم السب لأهل العراق في خطبه، فكثيرة خطبه التي يذكر فيها أهل العراق بشكل سيئ، و التي يرى فيها العراقيون إساءة إلى اليوم.
فدائماً كان يذكرهم:
"يا أهل العراق، يا أهل الشقاق و النفاق...." إلى آخر خطبه، و التي يمعن فيها في ذكر صفاتهم:
"فإنكم قد اضجعتم في مراقد الضلالة..." ، و غير ذلك من الخطب الكثيرة فيهم، كراهة منه لهم، و كراهة منه لهم.
و من ذلك أنه لما أراد الحج استخلف ابنه محمد عليهم، و خطب فيهم أنه أوصى ولده بهم بغير وصية الرسول في الأنصار، أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم، فقد أوصاه ألا يقبل من محسنهم، و لا يتجاوز عن مسيئهم، و قال لهم: أعلم أنكم تقولون مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفكم لي، لا أحسن الله لك الصحابة، و أرد عليكم: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
و أنهم شمتوا به يوم فُجع بولده محمد، و أخيه محمد في نفس اليوم، فخطب فيهم متوعداً إياهم.
و من ذلك أنه مرض فشاع بين الناس موته، فخرج أهل العراق محتفلين بموته، غير أنه قام من مرضه ليخطب فيهم خطبة قال فيها: "و هل أرجو الخير كله إلا بعد الموت"
أما أهل الشام فكانوا أكثر الناس محبة للحجاج، و أكثرهم نصرة له، و بكاء عليه بعد مماته، و قيل أنهم كانوا يقفون على قبره فيقولون رحم الله أبا محمد.
و كان الحجاج محباً له، دائم الإشادة بخصالهم، و الرفع من مكانتهم، و كان كثير الاستنصار بهم، و معظم جيشه كان منهم، و كان رفيقاً بهم.
وصف تاريخي
كان الحجاج بن يوسف بليغاً فصيحاً، محباً للشعر كثير الاستشهاد به، تقياً، مُعظماً للقرآن و آياته، كريماً، شجاعاً، و له مقحمات عظام و أخبار مهولة.
كان أخفش العينين، أضفعت بصره كثرة النظر في الدفاتر، كان يتزيا بزي الشطار، فيرجل شعره و يخضب أطرافه.
و كان يصعد على المنبر فيتكلم بكلام الملائكة، و ينزل فيفعل فعل الشياطين.
المراجع
البداية و النهاية – ابن كثير
مروج الذهب – المسعودي
تاريخ الخلفاء – السيوطي
العقد الفريد – ابن عبد ربه
دائرة المعارف الإسلامية
و مراجعأخرىمتنوعة
... منقول .
.
تعليق