والمرأة البدوية كانت تعمل عن عشرة رجال! من رجال هذا الزمن
عبدالله الجعيثن
حين كانت حياة البادية مزدهرة وسائدة في جزيرة العرب قبل خمسين عاماً أو أكثر، كانت بيوت الشَّعَر تتناثر في الصحراء، تناثر النجوم في السماء، وكانت الإبل بألوانها المختلفة تجوس البراري والقفار، بحثاً عن الماءِ والكلأ، أما قطعان الأغنام فتبدو للرآي من بعيد وكأنها قطع سوداء متحركة على رقعة شهباء، يتخللها بعض العشب وقليل من الأشجار، وموارد ضئيلة من الماء، ويتبعها الرعاة من رجالٍ ونساء، إذ كانت الأعرابيات يمارسن العمل.. بل والعمل الشاق تحت لهيب الشمس صيفاً، وزمهرير البرد شتاء، كانت المرأة البدوية تقوم بأعمال كثيرة، شاقة ومتواصلة، فهي ترعى الغنم، وتحلبها، وتحلب الإبل، وتجلب الماء إلى بيت الشعر من مكانٍ بعيد، وتطبخ الطعام، وتصنع من اللبن الإقط، وهو الجبن البدوي المجفف جداً لحدّ أنه يابس، وكنت ترى على كل قطعة من هذا الجبن البدوي (الإقط) أصابع البدوية التي صنعته وهو طري، وقد حفرت فيه وبقيت بعد أن جف، شاهدة على مشقة العمل الذي قامت به في كل قطعة، ولم يكن هذا عملها فقط، كانت أيضاً تجز الصوف من ظهور الإبل والأغنام، وتصنع من ذلك الصوف ملابس وعبايات، تغزلها بيدها، وبوسائل بدائية، متعبة، لم تكن تغزل ملابس وعبايات أسرتها فقط، بل كانت تغزل بيت الشَّعر كاملاً، حيث يذيقها الأمرين، ويُتْعبُها أشد التعب، ويستغرق منها الوقت الممل الطويل، ويصيب يديها بالكلل، بل وبالجروح..
وطبعاً كانت تحمل - وتلد.. وتُرضع.. لا يوجد مستشفى.. ولا مولِّدات.. ولا الحليب المجفف..
وهي، على هذا، مسؤولة عن إسعاد زوجها، والاهتمام به، وإعطائه كامل حقها، مهما أصابها التعب، أو ضربها العمل المتواصل الشاق بالإنهاك والإحباط.. لا مكان في الصحراء للتعب.. ولا اعتراف بشيء اسمه إنهاك.. أو إحباط..
كانت المرأة البدوية بمثابة مصنع كامل: تصنع الأغذية والملابس والرجال.. وتجلب المياه وترعى القطيع وتحلب الإبل والأغنام وتستخرج من حليبها أشكالاً من الغذاء ما بين سمن، وزبدة، ولبن، وإقط، فهي تخض صميلها، باستمرار، وربما تخض الصميل وفي حجرها وليدها يرضع، وتستخرج من الصميل - بعد الخضِّ المتواصل الشديد، تلك الأصناف من الأغذية القابلة للتسويق لدى الحضر، حيث يجلب البدو على الحواضر والقرى السمن والإقط والجلود والصوف وكله من عمل السيدة البدوية التي هي بمثابة الجندي المجهول..
وكان أكثر الأعراب، من قديم الزمان، ومن العصر الجاهلي، يلقون أعباء العمل الشاق على النساء.. الأعرابيات.. بينما يكتفي الأعرابي بحمس القهوة، وحماية القبيلة والأسرة، وتبادل السَّمر، وترديد الشعر..
❊ وعلى سبيل المثال فإن الشاعر الجاهلي القديم، وكان بدوياً في الصميم، يقول مخاطباً زوجته قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام:
«يا ربَّة البيتِ قومي غيَر صاغرةٍ
شُدَّي إليك رِحَالَ القومِ والقِرَبا
في ليلةٍ من جُمَادى ذاتِ أنديةٍ
لا يُبْصرُ الكلبُ من ظلمائِها الطّنُبا
لا ينبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ
حتى يَلُفَّ على خيشومِهِ الذَّنَبو*17و*13
عبدالله الجعيثن
حين كانت حياة البادية مزدهرة وسائدة في جزيرة العرب قبل خمسين عاماً أو أكثر، كانت بيوت الشَّعَر تتناثر في الصحراء، تناثر النجوم في السماء، وكانت الإبل بألوانها المختلفة تجوس البراري والقفار، بحثاً عن الماءِ والكلأ، أما قطعان الأغنام فتبدو للرآي من بعيد وكأنها قطع سوداء متحركة على رقعة شهباء، يتخللها بعض العشب وقليل من الأشجار، وموارد ضئيلة من الماء، ويتبعها الرعاة من رجالٍ ونساء، إذ كانت الأعرابيات يمارسن العمل.. بل والعمل الشاق تحت لهيب الشمس صيفاً، وزمهرير البرد شتاء، كانت المرأة البدوية تقوم بأعمال كثيرة، شاقة ومتواصلة، فهي ترعى الغنم، وتحلبها، وتحلب الإبل، وتجلب الماء إلى بيت الشعر من مكانٍ بعيد، وتطبخ الطعام، وتصنع من اللبن الإقط، وهو الجبن البدوي المجفف جداً لحدّ أنه يابس، وكنت ترى على كل قطعة من هذا الجبن البدوي (الإقط) أصابع البدوية التي صنعته وهو طري، وقد حفرت فيه وبقيت بعد أن جف، شاهدة على مشقة العمل الذي قامت به في كل قطعة، ولم يكن هذا عملها فقط، كانت أيضاً تجز الصوف من ظهور الإبل والأغنام، وتصنع من ذلك الصوف ملابس وعبايات، تغزلها بيدها، وبوسائل بدائية، متعبة، لم تكن تغزل ملابس وعبايات أسرتها فقط، بل كانت تغزل بيت الشَّعر كاملاً، حيث يذيقها الأمرين، ويُتْعبُها أشد التعب، ويستغرق منها الوقت الممل الطويل، ويصيب يديها بالكلل، بل وبالجروح..
وطبعاً كانت تحمل - وتلد.. وتُرضع.. لا يوجد مستشفى.. ولا مولِّدات.. ولا الحليب المجفف..
وهي، على هذا، مسؤولة عن إسعاد زوجها، والاهتمام به، وإعطائه كامل حقها، مهما أصابها التعب، أو ضربها العمل المتواصل الشاق بالإنهاك والإحباط.. لا مكان في الصحراء للتعب.. ولا اعتراف بشيء اسمه إنهاك.. أو إحباط..
كانت المرأة البدوية بمثابة مصنع كامل: تصنع الأغذية والملابس والرجال.. وتجلب المياه وترعى القطيع وتحلب الإبل والأغنام وتستخرج من حليبها أشكالاً من الغذاء ما بين سمن، وزبدة، ولبن، وإقط، فهي تخض صميلها، باستمرار، وربما تخض الصميل وفي حجرها وليدها يرضع، وتستخرج من الصميل - بعد الخضِّ المتواصل الشديد، تلك الأصناف من الأغذية القابلة للتسويق لدى الحضر، حيث يجلب البدو على الحواضر والقرى السمن والإقط والجلود والصوف وكله من عمل السيدة البدوية التي هي بمثابة الجندي المجهول..
وكان أكثر الأعراب، من قديم الزمان، ومن العصر الجاهلي، يلقون أعباء العمل الشاق على النساء.. الأعرابيات.. بينما يكتفي الأعرابي بحمس القهوة، وحماية القبيلة والأسرة، وتبادل السَّمر، وترديد الشعر..
❊ وعلى سبيل المثال فإن الشاعر الجاهلي القديم، وكان بدوياً في الصميم، يقول مخاطباً زوجته قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام:
«يا ربَّة البيتِ قومي غيَر صاغرةٍ
شُدَّي إليك رِحَالَ القومِ والقِرَبا
في ليلةٍ من جُمَادى ذاتِ أنديةٍ
لا يُبْصرُ الكلبُ من ظلمائِها الطّنُبا
لا ينبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ
حتى يَلُفَّ على خيشومِهِ الذَّنَبو*17و*13
تعليق