[align=right]
المجنون
منذ زمن ليس بالبعيد، سكن رجل مجنون يدعى فراس، إحدى القرى النائية المنعزلة، فأصبح من أشهر مجانينها وأعظمهم جنونا، تعوده الناس هناك وتعودوا وجوده، حتى صار من الصعب تخليهم عنه.
والعجيب في الأمر أن هذا المجنون لم ير نفسه يوما مجنونا. لطالما اختار لنفسه نمطا جنونيا خاصا به. كانت تكسو ملامحه مسحة من التكبر والغرور ... فلا تراه حافي القدمين أو ممزق الثياب رغم آثار القدم.
فــراس طويل القامة، نحيل الجسم، تغزو وجهه لحية عبث بها الشيب، أما رأسه فقد غطاه شعر كثيف، يرفعه عن عينيه بنظارة كبيرة يربطها بخيط شديد السواد. تختصر كل ممتلكاته تقريبا في مجلد يتأبطه تحت ذراعه قيل إنه ديوان أبي العلاء المعري في وسطه يدخل قلما يرشده إلى الصفحة التي يتوقف عندها أو يحتاج إلى الرجوع إليها. بهذه المواصفات استطاع أن يكون هذا المجنون متفردا بجنونه فاكتسب بذلك رهبة لا تقاوم فما طارده الأطفال يوما ولا حط من شأنه الكبار.
فراس لا يعرف له ماض ولا يدري أحد من أين أتى. وفي حاضره عرف مجنونا يتخذ أحد الأكواخ مسكنا، يطل كوخه على جبل كبير يطوق القرية التي تناثرت بيوتها هنا وهناك. وقد عرف المجنون بعادة غريبة، استغربها سكان القرية بادئ الأمر. لكنها سرعان ما صارت عادة ثم حاجة لأن البعض اتخذها ميقاتا يستيقظ عليه. فما أن تبدأ خيوط الفجر الأولى في البزوغ، حتى يطلق صرخة مدوية في السماء يتكفل الجبل بنقل صداها إلى كل الأسماع والجهات. بذلك كانت صرخته تلك كل ما نطق به فراس فلم تسمع له كلمة ولا كلم أحدا. إلا أن ما حز في نفسه أن لا أحد من سكان القرية سأله عن سبب صراخه. لذلك فهو يعتبر أهل القرية مجموعة من الأغبياء والمجانين يقتاتون من فتات العادة والتعود... دون محاولة طرح الأسئلة لاكتشاف العالم... وقد اعتبر نفسه الوحيد العاقل والذكي، وحده يدرك حجم الكارثة. إذن هو لم يصمت عبثا.
وفي أحد الأيام قرر فراس أن يفشي جنون سكان القرية ويخبرهم بما يترصدهم من شرور فاختار من أيام الأسبوع يوم الخميس. فيه يقيم السكان سوقا شعبية تستقطب الصغار والكبار النساء والرجال...
نهض، كعادته، مبكرا واتجه صوب مكان السوق. استغرب الناس حضوره، زمجر بعضهم وسخط، كما سخر بعضهم الأخر ووشوشة النسوة، واعتبر جمع آخر أن حضوره نذير شؤم.
بدا فراس في الدوران حول نفسه ثم اتخذ من إحدى العربات المرتفعة مكانا له ليستطيع مخاطبة الجميع.. تنحنح رفع نظارته أحكم إمساك كتابه وباشر الجميع بالحديث قائلا:
- يا قوم.....
ثم صمت ينتظر أن يلتف الجميع حوله وفعلا ألتم الجميع دهشة لأنهم لأول مرة يسمعون حديثه، بعدما ظنه أغلب الناس أخرصا...ولما استشعر المجنون صمت الجميع، بدأ خطبته العصماء:
"يا قوم أتدرون أنني صاحب تلك الصرخة كل صباح..؟؟ نعم أنتم تدرون ولا انتظر منكم إجابة. لكن ما حرك سكوني بعد طول صمت هو تقبلكم لكل شيء ببساطة. فانتم لا تشغلون فكركم ولا تطرحون الأسئلة.. انتظرت أن يسألني أحدكم ذات يوم عن سبب صراخي... لكن لا أحد فعل...؟؟ نعم كيف تخاطبون مجنونا؟؟ على الأقل لو عملتم بالمثل القائل- خذوا الحكم من أفواه المجانين...- المهم أنني أردت جمعكم لأنبهكم إلى أمر رهيب يحدث هناك خلف الجبل ...هناك من يكيد لكم بالشر هناك من يحاول اقتلاعكم من فوق الأرض...يا قوم إن للشر جناحين أراهما ينموان يوما بعد يوم...عليكم بالمغادرة قبل أن يفتك بكم الوحش...."
وقبل أن ينهي المجنون خطبته قاطعه الناس ثائرين، يشتمونه ويرمونه بالحجارة، وبكل ما يحملون في أفواههم وأيديهم... في ذلك اليوم سجل المجنون سقوط رهبته وانكسار قيمته....فراح يلملم أشلاء هزيمته النكراء. إلا أنه كان يدرك انه سيبكي قليلا. لكنهم سينتهون هو قال كلمته والساكت عن الحق شيطان أخرص...وهام بالرحيل على وجهه .
لكن الناس ضحكوه كثيرا في ذلك اليوم. ولعنوا ساعة سولت لهم أنفسهم الاستماع إلى مجنون وعادوا لمباشرة أعمالهم.
وبعد مرور أشهر قليلة على الحادثة لم تسمع صرخة ولم ير وجود لفراس. وفي إحدى الليالي كان الليل بهيما...يغط في نصفه الأخير.. وكان الجميع يندسون في بيوتهم... ينعمون بحرارتهم ويحلمون بغدهم ... فجأة تزلزلت الأرض من تحتهم ومن فوقهم فنغصت أحلامهم واستيقظوا مرعوبين، الكل يتوجه نحو الخارج ينشد النجاة.. عمل الكبار على لم الحشود في أعلى ربوة. كان الخوف يكاد يقتل قلوبهم نظروا إلى مصدر كل هذا. أدركوا أن ما أحدث كل هذا يركن خلف الجبل.. وأنه قد حركه... وبعد دقائق ترك الجبل من جديد ومن خلفه ظهر وحش رهيب يتطاير اللعاب من فمه والشر من عينيه الناريتين... شرع الجميع في الهروب... لكن الوحش كان أسرع هو من تابع فراس ولادته وهو من يشاهدونه كامل النمو. عندها فقط اعترفوا بجنونهم.. وصرخ أحد الشيوخ قائلا:"صدق المجانين ولو كذبوا..." لكن بعد أن صار في بطن الوحش.
منقوله
[/align]
المجنون
منذ زمن ليس بالبعيد، سكن رجل مجنون يدعى فراس، إحدى القرى النائية المنعزلة، فأصبح من أشهر مجانينها وأعظمهم جنونا، تعوده الناس هناك وتعودوا وجوده، حتى صار من الصعب تخليهم عنه.
والعجيب في الأمر أن هذا المجنون لم ير نفسه يوما مجنونا. لطالما اختار لنفسه نمطا جنونيا خاصا به. كانت تكسو ملامحه مسحة من التكبر والغرور ... فلا تراه حافي القدمين أو ممزق الثياب رغم آثار القدم.
فــراس طويل القامة، نحيل الجسم، تغزو وجهه لحية عبث بها الشيب، أما رأسه فقد غطاه شعر كثيف، يرفعه عن عينيه بنظارة كبيرة يربطها بخيط شديد السواد. تختصر كل ممتلكاته تقريبا في مجلد يتأبطه تحت ذراعه قيل إنه ديوان أبي العلاء المعري في وسطه يدخل قلما يرشده إلى الصفحة التي يتوقف عندها أو يحتاج إلى الرجوع إليها. بهذه المواصفات استطاع أن يكون هذا المجنون متفردا بجنونه فاكتسب بذلك رهبة لا تقاوم فما طارده الأطفال يوما ولا حط من شأنه الكبار.
فراس لا يعرف له ماض ولا يدري أحد من أين أتى. وفي حاضره عرف مجنونا يتخذ أحد الأكواخ مسكنا، يطل كوخه على جبل كبير يطوق القرية التي تناثرت بيوتها هنا وهناك. وقد عرف المجنون بعادة غريبة، استغربها سكان القرية بادئ الأمر. لكنها سرعان ما صارت عادة ثم حاجة لأن البعض اتخذها ميقاتا يستيقظ عليه. فما أن تبدأ خيوط الفجر الأولى في البزوغ، حتى يطلق صرخة مدوية في السماء يتكفل الجبل بنقل صداها إلى كل الأسماع والجهات. بذلك كانت صرخته تلك كل ما نطق به فراس فلم تسمع له كلمة ولا كلم أحدا. إلا أن ما حز في نفسه أن لا أحد من سكان القرية سأله عن سبب صراخه. لذلك فهو يعتبر أهل القرية مجموعة من الأغبياء والمجانين يقتاتون من فتات العادة والتعود... دون محاولة طرح الأسئلة لاكتشاف العالم... وقد اعتبر نفسه الوحيد العاقل والذكي، وحده يدرك حجم الكارثة. إذن هو لم يصمت عبثا.
وفي أحد الأيام قرر فراس أن يفشي جنون سكان القرية ويخبرهم بما يترصدهم من شرور فاختار من أيام الأسبوع يوم الخميس. فيه يقيم السكان سوقا شعبية تستقطب الصغار والكبار النساء والرجال...
نهض، كعادته، مبكرا واتجه صوب مكان السوق. استغرب الناس حضوره، زمجر بعضهم وسخط، كما سخر بعضهم الأخر ووشوشة النسوة، واعتبر جمع آخر أن حضوره نذير شؤم.
بدا فراس في الدوران حول نفسه ثم اتخذ من إحدى العربات المرتفعة مكانا له ليستطيع مخاطبة الجميع.. تنحنح رفع نظارته أحكم إمساك كتابه وباشر الجميع بالحديث قائلا:
- يا قوم.....
ثم صمت ينتظر أن يلتف الجميع حوله وفعلا ألتم الجميع دهشة لأنهم لأول مرة يسمعون حديثه، بعدما ظنه أغلب الناس أخرصا...ولما استشعر المجنون صمت الجميع، بدأ خطبته العصماء:
"يا قوم أتدرون أنني صاحب تلك الصرخة كل صباح..؟؟ نعم أنتم تدرون ولا انتظر منكم إجابة. لكن ما حرك سكوني بعد طول صمت هو تقبلكم لكل شيء ببساطة. فانتم لا تشغلون فكركم ولا تطرحون الأسئلة.. انتظرت أن يسألني أحدكم ذات يوم عن سبب صراخي... لكن لا أحد فعل...؟؟ نعم كيف تخاطبون مجنونا؟؟ على الأقل لو عملتم بالمثل القائل- خذوا الحكم من أفواه المجانين...- المهم أنني أردت جمعكم لأنبهكم إلى أمر رهيب يحدث هناك خلف الجبل ...هناك من يكيد لكم بالشر هناك من يحاول اقتلاعكم من فوق الأرض...يا قوم إن للشر جناحين أراهما ينموان يوما بعد يوم...عليكم بالمغادرة قبل أن يفتك بكم الوحش...."
وقبل أن ينهي المجنون خطبته قاطعه الناس ثائرين، يشتمونه ويرمونه بالحجارة، وبكل ما يحملون في أفواههم وأيديهم... في ذلك اليوم سجل المجنون سقوط رهبته وانكسار قيمته....فراح يلملم أشلاء هزيمته النكراء. إلا أنه كان يدرك انه سيبكي قليلا. لكنهم سينتهون هو قال كلمته والساكت عن الحق شيطان أخرص...وهام بالرحيل على وجهه .
لكن الناس ضحكوه كثيرا في ذلك اليوم. ولعنوا ساعة سولت لهم أنفسهم الاستماع إلى مجنون وعادوا لمباشرة أعمالهم.
وبعد مرور أشهر قليلة على الحادثة لم تسمع صرخة ولم ير وجود لفراس. وفي إحدى الليالي كان الليل بهيما...يغط في نصفه الأخير.. وكان الجميع يندسون في بيوتهم... ينعمون بحرارتهم ويحلمون بغدهم ... فجأة تزلزلت الأرض من تحتهم ومن فوقهم فنغصت أحلامهم واستيقظوا مرعوبين، الكل يتوجه نحو الخارج ينشد النجاة.. عمل الكبار على لم الحشود في أعلى ربوة. كان الخوف يكاد يقتل قلوبهم نظروا إلى مصدر كل هذا. أدركوا أن ما أحدث كل هذا يركن خلف الجبل.. وأنه قد حركه... وبعد دقائق ترك الجبل من جديد ومن خلفه ظهر وحش رهيب يتطاير اللعاب من فمه والشر من عينيه الناريتين... شرع الجميع في الهروب... لكن الوحش كان أسرع هو من تابع فراس ولادته وهو من يشاهدونه كامل النمو. عندها فقط اعترفوا بجنونهم.. وصرخ أحد الشيوخ قائلا:"صدق المجانين ولو كذبوا..." لكن بعد أن صار في بطن الوحش.
منقوله
[/align]
تعليق