قراءة في رواية " قلب من بنقلان"
قراءة: خليل الصمادي
المؤلف : د. سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز آل سعود
دار الفارابي بيروت ط1 2004
414 صفحة من الحجم المتوسط
لا يمكن فصل الحاضر عن الماضي أو حتى الهروب منه مهما كانت الأعذار حتى لو كان هذا الماضي قاسيا أو مؤلما أو حتى ظالما، يبقى الإنسان يعيش مع ماضيه ولكنه سرعان ما يصبح الماضي ذكريات، فالإنسان مشتق من النسيان كما يدعي فريق من اللغويين سرعان ما ينسى الماضي بكل ما يحمل، وتبقى منه الذكريات - مهما كانت- جميلة، وأما الفريق اللغوي الآخر فيشتق الإنسان من الأنس إذ سرعان ما يأنس المرء ما حوله ويتأقلم مع واقعه الجديد ويبقى الماضي مجرد ذكريات وحنين؛ إلا أن هذا الكلام قد ينطبق على جل الناس ولكن يبقى هناك من يعيش دائما بذاكرة الماضي مهما تباعدت الأيام والسنون.
هذا ما حصل مع فتاة صغيرة اختطفت من بلوشستان في أواخر أربعينات القرن الماضي لتصبح فيما بعد شاهدة على التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جزيرة العرب؛ لأنها أي المختطفة عاصرت أهم التطورات في المملكة العربية السعودية بعد أن أصبحت تسكن قصور الرياض لأنها أصبحت أما للأمير الذي خط الرواية.
تحاول بطلة الرواية أن تنسى ماضيها المؤلم لكنها لا تستطيع بالرغم من أن الحاضر قد يكون أفضل بكثير من الماضي وما يحمله من أنَّات وآهات، لا يتركها ولدها الباحث عن الحقيقة أن تؤثر الصمت فبعد إلحاح شديد ينزع منها كلاما تبوح به صاغها رواية تشد القارئ.
تتألف الرواية من ثمانية فصول وملحق بالمراجع المساندة للرواية ولم ينس الأمير أن يكتب إهداءه قبل أن يبحر مع والدته في عالم المجهول بدءًا من البكاء وانتهاء بصوت الأسى، والمتأمل في الإهداء يستشف العمق والشفافية قبل أن يقرأ الرواية يقول فيه" إلى الروح التي انتصرت على العقل الذي مانع طويلا في كشف وقائع الإبحار عبر شواطئ الزمن الماضي؛ بحثًا عن الجذور، وعن أصل الدموع التي رأيتها ذات يوم في عيون أم مسنة كُفَّ بصرها بعد أن قوّست الأيام ظهرها وأقعدتها تصاريف الدهر.
إلى العقل الذي أخافني وأقلقني وناشدني مرارا وتكرارا أن أخفي ما سمعته وعلمته في جب من المدركات عميق ففشل، ومن ثَمَّ كانت النتيجة هذه الرواية.
بعد الإهداء تبدأ الرواية بمقطع من أغنية بلوشية تقول" كم هي جميلة بلاد الآخرين مليئة بالناس والثروات وأنهار من العسل لكن الخشب الجاف في بلادنا خير من كل ما في العالم" بعد ذلك يسرد بطلا الرواية" الأمير وأمه " الأحداث التي صنعت هذا العمل المتميز والذي يعد بحق لونا جديدا في عالم الأدب.
تتذكر الفتاة البلوشية بلادها بعد أن ضربه زلزال 2001 الشهير والذي خلف دمارا هائلا وتعود بها الذكريات المؤلمة إلى سبعين سنة خلت حيث عصف بها زلزال غير مجرى حياتها حينما كانت فتاة صغيرة تناهز الثانية عشرة من عمرها إذ خطفت من ديارها بعد وفاة أمها بثلاثة أسابيع فكانت صيدا ثمينا لتجار الرقيق لأنها ذات حسب ونسب وجمال ، وفي حبكات درامية مثيرة تبوح الأميرة الصغيرة لابنها الأمير عن رحلة العذاب والمشقة التي نقلتها مع مئات من أترابها إلى خارج بلوشستان.
يحبس القارئ فيها أنفاسه وهو يتابع ما حل بالقافلة المختطفة إذ تنتقل برا على الشاطئ الإيراني و بعد شهرين إلى الشاطئ العماني وبعدها وفي رحلة برية مضنية تنتقل إلى واحة البر يمي ومن هناك تنتقل لتستقر لمدة عام في الإحساء بقصر الأمير القوي عبد الله بن جلوي ابن عم الملك عبد العزيز وتصدف أن يقوم ولي العهد السعودي آنذاك الأمير سعود بن عبد العزيز بزيارة لمنطقة الإحساء فيتعرف إلى الفتاة البلوشية فيضمها إلى سراريه وينتقل بها إلى الرياض وتسكن في قصوره وبعد سنوات تصبح أما لمقرن ولطيفة ولسيف الإسلام كاتب الرواية.
بهذه الشفافية النقية تدور حبكة الرواية وتنهي بذكريات حبيب ومنزل من الأهل والزوج والأحباب والأصحاب......
هذا هو الجانب الدرامي في الرواية ولكن الراوي ووالدته أحبا أن تكون هذه الرواية سجلا تاريخيا وسياسيا واجتماعيا وفلسفيا للفترة التي امتدت أكثر من ستين عاما، فلا بد للقارئ أن يحلق في تاريخ بلاد بلوشستان كما استشفها الراوي من بلوشيته الغالية ثم يحلق في تاريخ عُمان وحكامها وموقعها وعلاقاتها مع دول الجوار وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وكذا يمد القارئ بمعلومات جيدة عن (البر يمي) ومشكلتها وجمالها ولم ينس أن يطلعك على الإحساء وكل ما يتعلق بها في الفترة التي دارت أحداث الرواية فيها. ويفيض بذكر الرياض عند ذكرها فكيف لا تذكر وومضات الحبكة تشع منها فهي المدينة التي أحبها الراوي ولا سيما حي الناصرية حيث تدور أحداثها في قصوره التي كادت أن تصبح أطلالا بعد غياب مؤسسها رحمه الله.
وفي إشارات هنا وهناك تبوح الوالدة بأسرار القصور التي يتشوق كثير من الناس لسماعها وعما يحاك من مؤامرات نسائية كيدية للحظو بالعم المنعَّم وكذا بالمؤامرات السياسية التي تستشفها البلوشية وتبوح بها لابنها بعد عقود من الزمن.
أما الجانب السياسي فهو الأقوى في هذه الرواية فالزوجة دائمة الحنين لـ (عمها) أي زوجها الملك سعود الذي عوضها بحنانه وطيبته وكرمه عما حل بها من كارثة اختطافها والبعد عن الأهل والوطن كذا الابن الراوي يحن لوالده الذي لم ترتوِ عيناه بمزيد من رؤيته فيوم غادر الملك الرياض كان الراوي طفلا لم يتجاوز العاشرة من عمره فهاهو يبوح بحرقة عما حلَّ بوالده وبحي الناصرية الذي بناه في أيام مجده.
تعد هذه الرواية سجلا هاما لتاريخ الجزيرة العرب في فترة قلت فيها المصادر التاريخية ولا سيما لمنطقة مثل نجد التي حظيت بالاهتمام بعد رائحة النفط، هذا السجل يعرف القارئ بشيء من التفاصيل لواقع المجتمع السعودي خلال حكم الملك سعود رحمه " ولاسيما في الفصول الأخيرة من تبوح شهرزاد لابنها الأمير بكثير من المعلومات التي تثبت مواقف الملك الوطنية والقومية والإسلامية.
كما تتطرق الرواية إلى بعض الاعتقادات التي كان يؤمن بها كثير من الناس هناك وكثيرا من التبريرات التي لا تعليل لها إلا القدر والنصيب أو السحر أو الحسد وما شابه ذلك ، أما الطب فقد كان في حالة يرثى لها ولا سيما في بداية حكم الملك عبد العزيز لقد أخبرت الوالدة ابنها الحريص على المزيد من المعلومات أنَّ ولادة شقيقته لطيفة1368 هـ الموافق لـ 1949 م كانت في الرياض بالقصر الأحمر لم يكن هناك قابلة ولا مستشفيات لأن هذا المصطلح لم يكن موجودا أصلا حينها . ما كان متوافرا عبارة عن ثلة من أطباء مستشارين للملك عبد العزيز بعد ذلك؛ مما أنساهم أبجديات الطب بعد أن تعلموا أساسيات السياسة والحكم من الرجل البدوي الأسطوري!
تمدك الرواية بمعلومات عامة كثيرة حتى المعلومات الخاصة لا يمكن فصلها عن المعلومات العامة فهي جزء من نسيج مجتمع نجدي بدوي يتأقلم مع معطيات الحضارة ففي عام 1376 هـ الموافق لـ عام 1956م فهو عام ولادة الراوي بجوار مطار الرياض القديم وبالتحديد في فندق صحارى الذي اتخذه الملك سعود يرحمه الله مقرا لسكنه المؤقت لأنه كان ينوي هدم الناصرية القديمة المبنية بالطين؛ ليقيم عليها بناء حديثا من الإسمنت المسلح يواكب تطور تلك المرحلة. أما سبب تسميته بسيف الإسلام فلأن ولي عهد اليمن سيف الإسلام والرئيس السوري شكري القوتلي كانا في ضيافة الملك سعود يتناقشون في العدوان الثلاثي على مصر وفي الطرق الناجعة في مساعدتها، فأُخبر الملك بقدوم المولود الجديد وطُلب منه اختيار اسم له فلن يكن عنده متسع للتفكير في اسمه فسمته والدة الملك باسم الضيف اليمني لأن اسم شكري لم يجد وقعا طيبا لدى الجدة، فمن خلال هذه المعلومة اليسيرة تعيش في فترة زمنية بكل ذكرياتك وأحاسيسك ومشاعرك يختلط فيها الخاص بالعام والسياسة بالعادات والتقاليد والماضي بالمستقبل .
العنوان الواضح من هذه الرواية يكمن كلمة واحدة هي ( الغربة) أو التغريبة تبدأ من تغريبة الوالدة قسرا من موطنها ببلوشستان ومرورا بغربة ( عمها) إلى بلاد الإغريق وغربتها بعد فقد ولدين من أولادها رحمهما الله (مقرن ولطيفة) ثم غربتها الشديدة بعد زيارة وحيدها وما تبقى لها إلى بلاد الإغريق للسلام على والده وإلحاحها بضرورة عودته إلى الرياض على جناح السرعة خوفا من المجهول بالإضافة إلى غربة الوالدة وولدها عن الحي الذي عرفهم وعرفوه والإهمال الذي وقع به من عاديات الزمن وإلى غير ذلك من الإضاءات هنا وهناك تدل على حرقة الغربة التي تتميز بالجرأة وتصوير الواقع كما كان دون لف أو دوران أو رمزية مبهمة.
ذكرتني هذه الرواية بكتاب صدر بالتركية وترجم إلى العربية قبل خمسة عشر عاما(1991) لعائشة عثمان أوغلو ابنة السلطان عبد الحميد الثاني باسم ( والدي السلطان عبد الحميد) فالرواية والكتاب متشابهان إلى حد كبير في المضمون بيد أن كتاب الأميرة عبارة عن مذكرات أرخت فيها لحقبة مهملة عن والدها وما لحق به من اتهام وتشويه أزالت الغبار عنه عن طريق مذكرات وسرد مباشر بما يحمل من آلام الغربة التي اكتوى بها السلطان المخلوع وإبعاده إلى قصر علاء الدين في سلانييك.
أما الجانب اللغوي في الرواية فهو على قدر من التناسق والجمال والوضوح بعيدا عن الغموض والتعقيد، تنساب جمل الرواية بعذوبة لتشكل فصولا واضحة المعنى جلية الأفكار.
جاءت أكثر كلمات الرواية مضبوطة الآخر تسهيلا للقارئ وذيلت بعض الصفحات بهامش يشرح الراوي فيها كثير من الكلمات المحلية أو الأعلام أو بعض الكلمات ولموافقة التاريخ الميلادي للهجري وبعد تعد رواية د. سيف الإسلام بن سعود إضافة جديدة لعالم الروايات العربية، تشد القارئ من ألفها إلى يائها حملت بين حروفها قضايا سياسية واجتماعية وتاريخية واقتصادية ثرية تعطي القارئ صورة صادقة عن الفترة التي تناولتها.
....................
قراءة: خليل الصمادي
المؤلف : د. سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز آل سعود
دار الفارابي بيروت ط1 2004
414 صفحة من الحجم المتوسط
لا يمكن فصل الحاضر عن الماضي أو حتى الهروب منه مهما كانت الأعذار حتى لو كان هذا الماضي قاسيا أو مؤلما أو حتى ظالما، يبقى الإنسان يعيش مع ماضيه ولكنه سرعان ما يصبح الماضي ذكريات، فالإنسان مشتق من النسيان كما يدعي فريق من اللغويين سرعان ما ينسى الماضي بكل ما يحمل، وتبقى منه الذكريات - مهما كانت- جميلة، وأما الفريق اللغوي الآخر فيشتق الإنسان من الأنس إذ سرعان ما يأنس المرء ما حوله ويتأقلم مع واقعه الجديد ويبقى الماضي مجرد ذكريات وحنين؛ إلا أن هذا الكلام قد ينطبق على جل الناس ولكن يبقى هناك من يعيش دائما بذاكرة الماضي مهما تباعدت الأيام والسنون.
هذا ما حصل مع فتاة صغيرة اختطفت من بلوشستان في أواخر أربعينات القرن الماضي لتصبح فيما بعد شاهدة على التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جزيرة العرب؛ لأنها أي المختطفة عاصرت أهم التطورات في المملكة العربية السعودية بعد أن أصبحت تسكن قصور الرياض لأنها أصبحت أما للأمير الذي خط الرواية.
تحاول بطلة الرواية أن تنسى ماضيها المؤلم لكنها لا تستطيع بالرغم من أن الحاضر قد يكون أفضل بكثير من الماضي وما يحمله من أنَّات وآهات، لا يتركها ولدها الباحث عن الحقيقة أن تؤثر الصمت فبعد إلحاح شديد ينزع منها كلاما تبوح به صاغها رواية تشد القارئ.
تتألف الرواية من ثمانية فصول وملحق بالمراجع المساندة للرواية ولم ينس الأمير أن يكتب إهداءه قبل أن يبحر مع والدته في عالم المجهول بدءًا من البكاء وانتهاء بصوت الأسى، والمتأمل في الإهداء يستشف العمق والشفافية قبل أن يقرأ الرواية يقول فيه" إلى الروح التي انتصرت على العقل الذي مانع طويلا في كشف وقائع الإبحار عبر شواطئ الزمن الماضي؛ بحثًا عن الجذور، وعن أصل الدموع التي رأيتها ذات يوم في عيون أم مسنة كُفَّ بصرها بعد أن قوّست الأيام ظهرها وأقعدتها تصاريف الدهر.
إلى العقل الذي أخافني وأقلقني وناشدني مرارا وتكرارا أن أخفي ما سمعته وعلمته في جب من المدركات عميق ففشل، ومن ثَمَّ كانت النتيجة هذه الرواية.
بعد الإهداء تبدأ الرواية بمقطع من أغنية بلوشية تقول" كم هي جميلة بلاد الآخرين مليئة بالناس والثروات وأنهار من العسل لكن الخشب الجاف في بلادنا خير من كل ما في العالم" بعد ذلك يسرد بطلا الرواية" الأمير وأمه " الأحداث التي صنعت هذا العمل المتميز والذي يعد بحق لونا جديدا في عالم الأدب.
تتذكر الفتاة البلوشية بلادها بعد أن ضربه زلزال 2001 الشهير والذي خلف دمارا هائلا وتعود بها الذكريات المؤلمة إلى سبعين سنة خلت حيث عصف بها زلزال غير مجرى حياتها حينما كانت فتاة صغيرة تناهز الثانية عشرة من عمرها إذ خطفت من ديارها بعد وفاة أمها بثلاثة أسابيع فكانت صيدا ثمينا لتجار الرقيق لأنها ذات حسب ونسب وجمال ، وفي حبكات درامية مثيرة تبوح الأميرة الصغيرة لابنها الأمير عن رحلة العذاب والمشقة التي نقلتها مع مئات من أترابها إلى خارج بلوشستان.
يحبس القارئ فيها أنفاسه وهو يتابع ما حل بالقافلة المختطفة إذ تنتقل برا على الشاطئ الإيراني و بعد شهرين إلى الشاطئ العماني وبعدها وفي رحلة برية مضنية تنتقل إلى واحة البر يمي ومن هناك تنتقل لتستقر لمدة عام في الإحساء بقصر الأمير القوي عبد الله بن جلوي ابن عم الملك عبد العزيز وتصدف أن يقوم ولي العهد السعودي آنذاك الأمير سعود بن عبد العزيز بزيارة لمنطقة الإحساء فيتعرف إلى الفتاة البلوشية فيضمها إلى سراريه وينتقل بها إلى الرياض وتسكن في قصوره وبعد سنوات تصبح أما لمقرن ولطيفة ولسيف الإسلام كاتب الرواية.
بهذه الشفافية النقية تدور حبكة الرواية وتنهي بذكريات حبيب ومنزل من الأهل والزوج والأحباب والأصحاب......
هذا هو الجانب الدرامي في الرواية ولكن الراوي ووالدته أحبا أن تكون هذه الرواية سجلا تاريخيا وسياسيا واجتماعيا وفلسفيا للفترة التي امتدت أكثر من ستين عاما، فلا بد للقارئ أن يحلق في تاريخ بلاد بلوشستان كما استشفها الراوي من بلوشيته الغالية ثم يحلق في تاريخ عُمان وحكامها وموقعها وعلاقاتها مع دول الجوار وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وكذا يمد القارئ بمعلومات جيدة عن (البر يمي) ومشكلتها وجمالها ولم ينس أن يطلعك على الإحساء وكل ما يتعلق بها في الفترة التي دارت أحداث الرواية فيها. ويفيض بذكر الرياض عند ذكرها فكيف لا تذكر وومضات الحبكة تشع منها فهي المدينة التي أحبها الراوي ولا سيما حي الناصرية حيث تدور أحداثها في قصوره التي كادت أن تصبح أطلالا بعد غياب مؤسسها رحمه الله.
وفي إشارات هنا وهناك تبوح الوالدة بأسرار القصور التي يتشوق كثير من الناس لسماعها وعما يحاك من مؤامرات نسائية كيدية للحظو بالعم المنعَّم وكذا بالمؤامرات السياسية التي تستشفها البلوشية وتبوح بها لابنها بعد عقود من الزمن.
أما الجانب السياسي فهو الأقوى في هذه الرواية فالزوجة دائمة الحنين لـ (عمها) أي زوجها الملك سعود الذي عوضها بحنانه وطيبته وكرمه عما حل بها من كارثة اختطافها والبعد عن الأهل والوطن كذا الابن الراوي يحن لوالده الذي لم ترتوِ عيناه بمزيد من رؤيته فيوم غادر الملك الرياض كان الراوي طفلا لم يتجاوز العاشرة من عمره فهاهو يبوح بحرقة عما حلَّ بوالده وبحي الناصرية الذي بناه في أيام مجده.
تعد هذه الرواية سجلا هاما لتاريخ الجزيرة العرب في فترة قلت فيها المصادر التاريخية ولا سيما لمنطقة مثل نجد التي حظيت بالاهتمام بعد رائحة النفط، هذا السجل يعرف القارئ بشيء من التفاصيل لواقع المجتمع السعودي خلال حكم الملك سعود رحمه " ولاسيما في الفصول الأخيرة من تبوح شهرزاد لابنها الأمير بكثير من المعلومات التي تثبت مواقف الملك الوطنية والقومية والإسلامية.
كما تتطرق الرواية إلى بعض الاعتقادات التي كان يؤمن بها كثير من الناس هناك وكثيرا من التبريرات التي لا تعليل لها إلا القدر والنصيب أو السحر أو الحسد وما شابه ذلك ، أما الطب فقد كان في حالة يرثى لها ولا سيما في بداية حكم الملك عبد العزيز لقد أخبرت الوالدة ابنها الحريص على المزيد من المعلومات أنَّ ولادة شقيقته لطيفة1368 هـ الموافق لـ 1949 م كانت في الرياض بالقصر الأحمر لم يكن هناك قابلة ولا مستشفيات لأن هذا المصطلح لم يكن موجودا أصلا حينها . ما كان متوافرا عبارة عن ثلة من أطباء مستشارين للملك عبد العزيز بعد ذلك؛ مما أنساهم أبجديات الطب بعد أن تعلموا أساسيات السياسة والحكم من الرجل البدوي الأسطوري!
تمدك الرواية بمعلومات عامة كثيرة حتى المعلومات الخاصة لا يمكن فصلها عن المعلومات العامة فهي جزء من نسيج مجتمع نجدي بدوي يتأقلم مع معطيات الحضارة ففي عام 1376 هـ الموافق لـ عام 1956م فهو عام ولادة الراوي بجوار مطار الرياض القديم وبالتحديد في فندق صحارى الذي اتخذه الملك سعود يرحمه الله مقرا لسكنه المؤقت لأنه كان ينوي هدم الناصرية القديمة المبنية بالطين؛ ليقيم عليها بناء حديثا من الإسمنت المسلح يواكب تطور تلك المرحلة. أما سبب تسميته بسيف الإسلام فلأن ولي عهد اليمن سيف الإسلام والرئيس السوري شكري القوتلي كانا في ضيافة الملك سعود يتناقشون في العدوان الثلاثي على مصر وفي الطرق الناجعة في مساعدتها، فأُخبر الملك بقدوم المولود الجديد وطُلب منه اختيار اسم له فلن يكن عنده متسع للتفكير في اسمه فسمته والدة الملك باسم الضيف اليمني لأن اسم شكري لم يجد وقعا طيبا لدى الجدة، فمن خلال هذه المعلومة اليسيرة تعيش في فترة زمنية بكل ذكرياتك وأحاسيسك ومشاعرك يختلط فيها الخاص بالعام والسياسة بالعادات والتقاليد والماضي بالمستقبل .
العنوان الواضح من هذه الرواية يكمن كلمة واحدة هي ( الغربة) أو التغريبة تبدأ من تغريبة الوالدة قسرا من موطنها ببلوشستان ومرورا بغربة ( عمها) إلى بلاد الإغريق وغربتها بعد فقد ولدين من أولادها رحمهما الله (مقرن ولطيفة) ثم غربتها الشديدة بعد زيارة وحيدها وما تبقى لها إلى بلاد الإغريق للسلام على والده وإلحاحها بضرورة عودته إلى الرياض على جناح السرعة خوفا من المجهول بالإضافة إلى غربة الوالدة وولدها عن الحي الذي عرفهم وعرفوه والإهمال الذي وقع به من عاديات الزمن وإلى غير ذلك من الإضاءات هنا وهناك تدل على حرقة الغربة التي تتميز بالجرأة وتصوير الواقع كما كان دون لف أو دوران أو رمزية مبهمة.
ذكرتني هذه الرواية بكتاب صدر بالتركية وترجم إلى العربية قبل خمسة عشر عاما(1991) لعائشة عثمان أوغلو ابنة السلطان عبد الحميد الثاني باسم ( والدي السلطان عبد الحميد) فالرواية والكتاب متشابهان إلى حد كبير في المضمون بيد أن كتاب الأميرة عبارة عن مذكرات أرخت فيها لحقبة مهملة عن والدها وما لحق به من اتهام وتشويه أزالت الغبار عنه عن طريق مذكرات وسرد مباشر بما يحمل من آلام الغربة التي اكتوى بها السلطان المخلوع وإبعاده إلى قصر علاء الدين في سلانييك.
أما الجانب اللغوي في الرواية فهو على قدر من التناسق والجمال والوضوح بعيدا عن الغموض والتعقيد، تنساب جمل الرواية بعذوبة لتشكل فصولا واضحة المعنى جلية الأفكار.
جاءت أكثر كلمات الرواية مضبوطة الآخر تسهيلا للقارئ وذيلت بعض الصفحات بهامش يشرح الراوي فيها كثير من الكلمات المحلية أو الأعلام أو بعض الكلمات ولموافقة التاريخ الميلادي للهجري وبعد تعد رواية د. سيف الإسلام بن سعود إضافة جديدة لعالم الروايات العربية، تشد القارئ من ألفها إلى يائها حملت بين حروفها قضايا سياسية واجتماعية وتاريخية واقتصادية ثرية تعطي القارئ صورة صادقة عن الفترة التي تناولتها.
....................
تعليق