إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

السيرة النبوية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    رد: السيرة النبوية

    غزوة ذات الرقاع
    ما زال الكفار يهددون المسلمين، ويشكلون خطرًا عليهم، فهذه قبائل غطفان تتجمع للهجوم على المدينة، فكان لابد من الخروج إليهم وردعهم قبل أن يهاجموا المسلمين.
    فخرج المسلمون في شهر ربيع الأول من العام السابع من الهجرة، وهم لا يبالون بالتعب، يتبادل كل ستة منهم ركوب بعير واحد، ويسيرون في الجبال، وفوق الصخور، حتى أصيبت أقدامهم وسقطت أظافرهم، فأخذوا يلفون أرجلهم بالخرق والرقاع (القماش القديم)، فسميت هذه الغزوة باسم ذات الرقاع، وتسمى أيضًا بغزة نجد.
    فلما علمت قبائل غطفان بقدوم المسلمين هربت، فلم يقع قتال، وعاد المسلمون منتصرين. وفي طريق العودة اشتد الحر عليهم، وجاء وقت القيلولة فنزلوا في وادْ كثير الأشجار، وتفرق المسلمون يستظلون فيه.
    وقد نام الرسول ( تحت شجرة وعلق سيفه بها، فإذا بأعرابي كافر يأتي فيأخذ السيف، فشعر به الرسول، واستيقظ من نومه، فقال الأعرابي: من يمنعك مني؟ فقال رسول الله (: "الله". وإذا بالأعرابي يرتعد ويسقط السيف من يده، فأخذه النبي ( ثم عفا عن الأعرابي وتركه. [متفق عليه].




    الحقوق محفوظة لكل مسلم

    تعليق


    • #32
      رد: السيرة النبوية

      عمرة القضاء
      في العام السابع الهجري، أصبح للمسلمين الحق في دخول مكة للعمرة حسب اتفاقهم مع قريش في العام السابق، فخرج رسول الله ( ومعه ألفان من المسلمين ودخلوا مكة حاملين سيوفهم، وأخذوا يطوفون حول الكعبة في عزٍّ وقوة، حتى قال أهل مكة من الكفار، وهم ينظرون في دهشة إلى المسلمين وقوتهم: هؤلاء هم الذين قلتم: إن حُمَّى المدينة أضعفتهم! [أحمد]
      وقضى المسلمون عمرتهم ثم خرجوا من مكة بعد ثلاثة أيام احترامًا للاتفاق الذي عقدوه في صلح الحديبية مع كفار قريش، وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء؛ لأن المشركين صدوا رسول الله ( عام الحديبية عن البيت الحرام، فكان مجيئه في العام التالي لقضاء ما فاته.
      وبينما الرسول ( وحوله أصحابه عائدون،إذا بفتاة تخرج من مكة، تجري خلفهم وتنادي رسول الله ( قائلة: يا عم. يا عم.
      إنها ابنة حمزة سيد الشهداء الذي استشهد في أحد، فأخذها علي بن أبي طالب، وسلمها إلى السيدة فاطمة زوجته، وإذا بزيد بن حارثة وجعفر يتنافسان على أيهما أحق بكفالتها.
      فقال جعفر: ابنة عمي وخالتها زوجتي. وقال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي.
      وقال زيد: ابنة أخي؛ لأن النبي ( قد آخى بين زيد وحمزة. فحكم النبي ( بأن تكون مع جعفر وزوجته. وقال: "الخالة بمنزلة الأم" [البخاري].
      وفي هذه العمرة تزوج الرسول ( من السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية
      -رضي الله عنه-.
      إسلام عمرو بن العاص:
      أمام انتصارات الإسلام المتتالية، وازدياد قوة المسلمين يومًا بعد يوم، وقف عمرو بن العاص مع نفسه، فهداه تفكيره إلى أن يرحل إلى الحبشة ويراقب من هناك صراع الإسلام مع المشركين من قريش، فإذا انتصر المسلمون كان آمنًا، وإذا انتصر الكفار عاد إليهم.
      وبينما عمرو بن العاص يستعد للدخول إلى النجاشي ملك الحبشة إذا به يرى عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه- خارجًا من عنده، فلما دخل عمرو على النجاشي قال له: أيها الملك إن قد رأيت رجلاً يخرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
      فغضب النجاشي، ولطم أنفه بضربة شديدة، حتى ظن عمرو أن أنف النجاشي قد كسرت، وارتعد عمرو من الخوف، لكنه تماسك وقال للنجاشي: أيها الملك! والله، لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟ فقال عمرو: أيها الملك، أكذاك هو؟ فقال النجاشي: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده.
      فقال عمرو: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم.
      فبسط عمرو يده، فبايعه على الإسلام. فلما قدم عمرو المدينة ذهب إلى رسول الله ( ليبايعه وقال لرسول الله (: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما تأخر. فقال رسول الله (: "يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجُبُّ (يهدم) ما كان قبله، وإن الهجرة تَجُبُّ ما كان قبلها"[ابن إسحاق] فأسلم عمرو، وكان إسلامه في العام الثامن الهجري.
      إسلام خالد بن الوليد:
      وقف خالد بن الوليد بعد صلح الحديبية حائرًا، فقد فَطن إلى أن النصر سيكون للمسلمين على قريش، وبدأ يفكر في مكان يذهب إليه.
      وعندما وصل المسلمون مكة في عمرة القضاء، ومعهم الوليد بن الوليد أخو خالد، ظل الوليد يبحث عن أخيه خالد، فلما لم يجده ترك له رسالة، قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثلُ الإسلام جهله أحد؟! وقد سألني رسول الله ( عنك فقال: "أين خالد؟" فقلت: يأتي الله به. فقال: "مثله جهل الإسلام! ولو كان جعل نكايته وجدَّه مع المسلمين على المشركين، لكان خيرًا له، ولقدَّمناه على غيره". فاستدرك يا أخي ما فاتك من مواطن صالحة. قرأ خالد هذه الكلمات الصادقة، فانشرح صدره للإسلام وتوجه إلى رسول الله (.
      وفي الطريق، التقى بعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة فتوجهوا معًا إلى المدينة وقد جمع الإسلام بين قلوبهم، فلما رآهم الرسول ( أشرق وجهه بابتسامة عذبة، وبايعهم على الإسلام.


      الحقوق محفوظة لكل مسلم

      تعليق


      • #33
        رد: السيرة النبوية

        غزوة مؤتة
        في العام الثامن الهجري، أرسل رسول الله ( الحارث بن عمير الأزدي
        -رضي الله عنه- إلى أمير بُصرى؛ ليدعوه وقومه إلى الإسلام، فطغى أمير بصرى وأتباعه، وقتلوا هذا الصحابي الجليل، فغضب رسول الله ( والمسلمون من هذا الغدر وهذه الخيانة، وجهز جيشًا من ثلاثة آلاف جندي؛ لتأديب هؤلاء القوم، وجعل رسول الله ( زيد بن حارثة قائدًا على الجيش، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة. [البخاري]
        وانطلق الجيش حتى بلغ الشام، وفوجئ المسلمون بأن جيش الروم يبلغ مائتي ألف مقاتل، فكيف يواجهونه بثلاثة آلاف مقاتل لا غير؟
        وقف عبد الله بن رواحة الأسد، يشجع الناس ويقول لهم: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون.. الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور (نصر) وإما شهادة.
        فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس، وقد امتلأت قلوبهم ثقة بالله -سبحانه-.
        ورغم هذا الفارق الكبير في العدد، حيث إنَّ كل مسلم منهم يواجه وحده حوالي سبعين مشركاً، فقد دخلوا في معركة حامية وهم مشتاقون إلى الشهادة، والموت في سبيل الله.
        والتقى الجيشان، وقاد زيد بن حارثة جيش المسلمين، وهو يحمل راية رسول الله ( حتى استشهد -رضي الله عنه-، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، واشتدت المعركة، فنزل جعفر عن فرسه وعقرها (قطع أرجلها) حتى لا يأخذها أحد الكفار فيحارب عليها المسلمين، وحمل جعفر الراية بيمينه فقطعت، فأخذها بشماله فقطعت، فاحتضنها بعضديه حتى استشهد -رضي الله عنه-، فحمل الراية عبد الله بن رواحة، ووجد في نفسه بعض التردد، فحث نفسه على الجهاد بقوله:
        أقسمت يا نفسُ لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه
        إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكريهن الجنة
        وقاتل حتى استشهد في سبيل الله.
        عندئذ كان لابد من أن يبحث المسلمون عن قائد يدير المعركة بعد استشهاد القادة الثلاثة، فاتفق الناس على خالد بن الوليد.
        فقاد خالد -رضي الله عنه- أولى تجاربه العسكرية التي يخوضها بعد إسلامه. فوجد الفرق كبيرًا بين عدد المشركين وعدد المسلمين، ولابد أمامه من الحيلة حتى لا يفنى المسلمون جميعهم، ويحافظ على جيشه سليمًا، فكان يقاتل الأعداء كأسد جسور، وكلَّما انكسر في يده سيف أخذ سيفًا آخر، حتى انكسرت في يده تسعة أسياف.
        وعندما جاء الليل وتوقف القتال، أخذ خالد يعيد ترتيب جيش، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدمة مؤخرة.
        وفي الصباح نظر الروم إلى المسلمين، فوجدوا الوجوه غير وجوه الأمس، فظنوا أن المسلمين قد جاءهم مدد، فخافوا وارتعدوا، وفرُّوا خائفين رغم كثرتهم، فلم يتبعهم المسلمون، لكنهم عادوا إلى المدينة.
        فقابلهم الصبية وهم يرمون التراب في وجوههم؛ لأنهم تركوا الميدان ورجعوا، وكان يعيرونهم قائلين: يا فُرَّار، أفررتم في سبيل الله؟
        ولكن رسول الله ( كان يعلم المأزق الذي كان فيه جيشه فقال لهم: "ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله" [ابن سعد].
        وأطلق على خالد بن الوليد في هذه المعركة سيف الله المسلول، تقديرًا لذكائه وحسن تصرفه الذي أنقذ به المسلمين من الهلاك المحقق.
        سرية ذات السلاسل:
        رأينا شجاعة خالد بن الوليد وعبقريته في غزوة مؤتة، وها هو ذا عمرو بن العاص يخرج على رأس جيش من المسلمين في جمادى الآخرة من العام الثامن الهجري؛ لتأديب القبائل الموالية للروم قرب بلاد الشام، وهناك بجوار ماء يسمى (السلاسل) أقام المسلمون ينتظرون المدد من رسول الله (، وإذا بجيش كبير يقبل عليهم فيه أبو بكر وعمر ويقوده أبو عبيدة بن الجراح الذي أوصاه رسول الله ( بعدم الخلاف مع عمرو بن العاص.
        ولما جاء وقت الصلاة أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فمنعه عمرو، وقال: إنما قدمت على مددًا وأنا الأمير. فأطاع له أبو عبيدة حتى لا يكون سببًا في الفرقة بين المسلمين.
        وانطلق المسلمون خلف قائدهم تحت راية الإسلام، يطاردون القبائل التي تشكل تهديدًا للمسلمين، ففروا منهزمين أمامهم. وقد أظهرت هذه المعارك كفاءة عمرو الحربية، وأدخلت الرعب في نفوس الأعداء.

        تعليق


        • #34
          رد: السيرة النبوية

          فتح مكة
          بعد أن تم عقد صلح الحديبية بين المسلمين والمشركين من قريش، دخلت قبيلة خزاعة في حلف المسلمين، ودخل بنو بكر في حلف قريش، وحدث أن اعتدى بنو بكر على خزاعة، وإذا بقريش تساعدهم، وترسل لهم السلاح، وبذلك خانت قريش عهدها مع رسول الله (.
          وأقبل عمرو بن سالم الخزاعي يشكو لرسول الله ( الغدر والخيانة، فوعده الرسول ( بالانتصار لهم. وفي مكة ندم الكفار على خيانتهم للعهد، وشعروا بفداحة جُرمهم، وأدركوا أنهم أصبحوا مهددين، فذهب أبو سفيان إلى المدينة ليقابل رسول الله ( ويعتذر ويؤكد المعاهدة بين قريش والمسلمين.
          أخذ أبو سفيان يبحث عمن يتوسل به إلى رسول الله (، فذهب إلى ابنته أم حبيبة، زوجة رسول الله (، لتشفع له عند رسول الله (، فلما همَّ بالجلوس، رفعت السيدة أم حبيبة الفراش من أمامه حتى لا يجلس عليه، وقالت له: أنت رجل مشرك نجس، ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله (. [ابن إسحاق]
          ثم خرج أبو سفيان فكلَّم رسول الله ( فلم يرد عليه، وذهب إلى أبي بكر ليكلم له رسول الله ( فرفض أبو بكر، فذهب أبو سفيان إلى عمر بن الخطاب فرد عليه عمر ردًّا غليظًا، فلجأ إلى عليّ بن أبي طالب، فنصحه عليٌّ بأن يعود إلى مكة من حيث جاء، فرجع أبو سفيان إلى مكة خائبًا، وظل المشركون ينتظرون قدوم المسلمين إليهم في رعب وخوف وقلق.
          وبدأ النبي ( يستعد للسير إلى مكة، ولم يُعلم الناس بمقصده، وقال: "اللهمَّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلدها" [ابن إسحاق].
          وكان حاطب بن أبي بلتعة قد كتب إلى قريش يخبرهم بقدوم النبي (، وأعطى الكتاب لامرأة لكي تبلغه إلى قريش، فجاء النبي ( خبر من السماء يعلمه بما فعل حاطب.
          فأرسل الرسول ( علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في طلب المرأة، فلحقا بها، وقالا لها: أخرجي الكتاب. فقالت ما معي كتاب. فقالا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. فأخرجته من شعرها، فأتيا به رسول الله (، فقال: "يا حاطب، ما حملك على هذا؟" فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرتُ ولا بدلتُ، ولكني كنتُ امرءًا ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان ليبين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم (ليكون لي جميل عندهم).
          وأراد عمر بن الخطاب أن يقتل حاطبًا، فقال له رسول الله (: "وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال اعلموا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم" [متفق عليه].
          وزلت الآيات الأولى من سورة الممتحنة في ذلك، فقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) [الممتحنة].
          وفي العاشر من رمضان في السنة الثامنة للهجرة، خرج الرسول ( ومعه المسلمون يملئون الصحراء، في عشرة آلاف مقاتل متجهين إلى مكة.
          ومن مكة، خرج أبو سفيان ومعه بديل بن ورقاء وحكيم بن حزام؛ ليتجسسوا على المسلمين، ولم يكونوا على علم بقدوم الرسول ( إليهم. وفي جوف الليل، رأوا النيران المشتعلة تملأ الصحراء.. يا للعجب! ما كل هذه النيران؟ فقال أحدهم: هذه خزاعة. فقال أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
          وسمع العباس عم النبي ( -وكان قد أسلم- صوت أبي سفيان في جوف الليل، فناداه وأخبره أنها نيران المسلمين، ووقف أبو سفيان مندهشًا ينظر إلى جنود المسلمين ويسأل نفسه: ما كل هذه الجنود؟ وكيف تجمعوا حول محمد؟ كيف صار بهذه القوة بعد أن خرج من مكة ضعيفًا لا حول له ولا قوة؟!
          وفي انبهار أخذ العباس وأبو سفيان يشاهدان قوة جيش المسلمين، فقال
          أبو سفيان للعباس: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة.
          وتوجه أبو سفيان مع العباس إلى رسول الله (، فلما رآه الرسول ( قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟". قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد.
          فقال رسول الله (: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟" قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا.
          فقال العباس: ويحك، أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فشهد أبو سفيان شهادة الحق وأسلم. [ابن إسحاق].
          وعندما دخل الرسول ( والمسلمون مكة أراد أن يكرم أبا سفيان، فقد كان رجلاً يحب الفخر، فقال الرسول (: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".
          وعفا الرسول ( عن أهل مكة الذي آذوه وطردوه هو أصحابه، وبإسلامه سوف يسلم كثير من أهل مكة دون قتال وإراقة دماء، فانطلق أبو سفيان إلى قومه ونادى فيهم بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
          وأسرع الناس إلى بيوتهم يختبئون، وامتلأت شوارع مكة بالمسلمين دون قتال سوى اشتباك قليل بين خالد بن الوليد وبعض الكفار في جنوب مكة.
          وفي لحظة واحدة تغيَّر الحال، فدخل الرسول ( الكعبة، وظهرها من الأصنام بعد أن كانت من قبل مليئة بها، وهدَّم الرسول والمسلمون ثلاثمائة وستين صنمًا كانت حولها، والرسول ( يقرأ قوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا) [الإسراء: 81]، (وقل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) [سبأ: 49].
          وانطلق صوت بلال بن رباح يدوي في الآفاق ويؤذن للصلاة فوق البيت العتيق، فاطمأن الناس على أنفسهم وبدأوا يخرجون من بيوتهم، ويقبلون على رسول الله (، فوقف على باب الكعبة، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
          ثم قال: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم. فنظر إليهم الرسول ( نظرة كلها عفو ورحمة، وقال: "لا أقول لكم إلا كما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين). اذهبوا فأنتم الطلقاء". [ابن إسحاق وابن سعد]
          وأقام الرسول ( في مكة تسعة عشر يومًا يعلِّم الناس أركان الإسلام، ويرسل القادة والفرسان لهدم أصنام القبائل المجاورة.
          الحقوق محفوظة لكل مسلم

          تعليق


          • #35
            رد: السيرة النبوية

            غزوة حنين
            تجمعت قبائل هوازن وثقيف التي تسكن قريبًا من مكة في أعداد كثيرة؛ يريدون قتال المسلمين، وكان قائدهم مالك بن عوف قد أمرهم بحمل أموالهم وأبنائهم ونسائهم معهم كي لا يفروا ويتركوا ساحة المعركة. وأمر مالك جيشه أن يختبئوا على مداخل وادي حنين، فإذا ظهر المسلمون هجموا عليهم مرة واحدة.
            وأقبل النبي ( ومعه اثنا عشر ألف مسلم، واغترَّ المسلمون بكثرتهم، فظنوا أنهم لن يُهزموا أبدًا، فأراد الله تعالى أن يعطيهم درسًا عظيمًا، وبين لهم أن الكثرة وحدها لا تحقق النصر، فقد وقعوا في المكيدة التي دبرها لهم مالك بن عوف، وانهال عليهم المشركون بالسهام من كل ناحية، فانهزموا، وفرَّوا، وإذا بالنبي ( يثبت أمام الكفار وينادي المسلمين: "إليَّ يا عباد الله، أنا محمد بن عبد الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" [متفق عليه].
            وأخذ العباس عم النبي ( ينادي الناس، فتجمع المسلمون حول النبي ( صائحين: لبيك. لبيك. وانهالوا على الكفار يقتلونهم، فقال (: "الآن حمي الوطيس" [مسلم]. ثم أخذ بيده الشريفة حصيات من الارض، فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة" [مسلم]. وقذف الله في قلوب المشركين الرعب، فانهزموا، وفر قائدهم مالك بن عوف تاركًا أمواله وأهله، وتوجه هو ورجاله إلى الطائف. وغنم المسلمون أربعة وعشرين ألفا من الغنم، وستة آلاف أسير، وكثيرًا من الفضة.
            وانتظر الرسول ( هوازن بضعة عشر يومًا، ربما أتت إليه مسلمة معتذرة فيرد لهم أموالهم، لكنهم لم يأتوا، فوزعها على المسلمين. ثم توجه المسلمون إلى الطائف، للقضاء على ثقيف ومن فرَّ من هوازن، وحاصروا حصونها خمس عشرة ليلة، اكتشفوا خلالها أن المشركين يستطيعون الصمود خلف الحصون عامًا كاملاً بما لديهم من غذاء ومؤنة، فأمر ( المسلمين بالرحيل، ودعا لثقيف قائلاً: "اللهمَّ اهد ثقيفًا وأت بهم مسلمين" [الترمذي].
            فاستجاب الله لنبيه ( وجاء وفد ثقيف مسلمًا. وقدم وفد هوازن ممن أسلموا وسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم، فقال (: "اختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال"، فقالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، فالحسب أحب إلينا، فقال ( للمسلمين: "إن إخوانكم قد جاءوا تائبين، وإني رأيت أن أراد سبيهم، فأذنوا في ذلك فأعيدوا إلى هوازن سبيها" [البخاري].

            تعليق


            • #36
              رد: السيرة النبوية

              غزوة تبوك
              فتحت مكة، وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، وأصبح يشكل خطرًا على الروم، فرأى الروم أن يجهزوا جيشًا لقتال المسلمين. فكان لابد للمسلمين من الخروج إليهم، ولكن الحر شديد، والسفر إلى أرض الروم طويل، والناس في عسرة، وثمار المدينة حان وقت حصادها، وفي ظل هذه الظروف كلها، كان القرار الحاسم، فقد أعلن الرسول ( على الناس الخروج لقتال الروم، وهذه فرصة ليظهر المنافقون أمام المجتمع المسلم، ويثبت المسلمون الصادقون في إسلامهم.
              وتسابق المسلمون في فعل الخير، وتجهيز الجيش الذي سمي بجيش العسرة، فجاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بنصف ماله، فقال رسول الله (: "ما أبقيت لأهلك؟". قال: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟". فقال: "أبقيت لهم الله ورسوله. [الترمذي]، وجاء
              عثمان بن عفان إلى النبي ( بألف دينار، فوضعها في حجر النبي ( فجعل يقبلها بيده، ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" [الترمذي].
              وقي الوقت نفسه كان المنافقون يختلقون الأعذار حتى لا يشاركوا في هذه الغزوة، وأخذوا يروِّجون لأفكارهم فيما بينهم، ويقولون: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى فيهم: (قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون) [التوبة: 81]. وتحرك جيش المسلمين في شهر رجب من العام التاسع الهجري رغم الحر والتعب تاركين المدينة، وما بها من ثمار وظلال؛ طاعة لله ورسوله.
              وفي الصحراء، اشتد الحر ونفد الماء، فدعا النبي ( ربه، وظل رافعًا يديه، فأرسل الله سحابة أمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء. ووصل الجيش بسلام إلى تبوك، فنزل الرعب بقلوب الأعداء، فتفرقوا وانسحبوا داخل بلادهم، ولم يقدروا على محاربة المسلمين. فبعث الرسول ( خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب حصن دومة، وقال له: "إنك ستجده يصيد البقر".
              وفي ليلة مقمرة، وقفت بقرة جميلة تحك باب القصر فنزل إليها الملك ليصيدها، وركب فرسه، وأخذ رمحه، وخرج مع بعض من أهله، فلما خرجوا كانت رسل النبي ( تنتظره، فأخذته، وقتلوا أخاه، وقدم خالد بن الوليد ومعه أكيدر أسيراً، فصالحه الرسول ( على الجزية، ثم تركه وخلى سبيله وعاد إلى قريته.
              وعاد الرسول ( بالجيش مظفرًا منتصرًا بعد أن حقق أهداف غزوته دون قتال، وبينما هم في طريقهم إلى المدينة قال (: "إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم".
              قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟! قال: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر" [متفق عليه]. وخرج هؤلاء المسلمون الصادقون الذين حبستهم الأعذار عن الخروج في الغزوة يستقبلون الرسول ( والجيش بالفرحة الشديد. أما المنافقون المتخلفون عن الجهاد، فقد أخذوا يقدمون الأعذار الكاذبة لرسول الله (، فقبل منهم علانيتهم، وترك سرائرهم لله تعالى.
              وكان من بين الذين تخلفوا عن الغزوة كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وهم من المؤمنين الصادقين، ولكنهم لم يخرجوا مع النبي ( لقتال الروم، ولم يكن لهم عذر.
              جاء كعب بن مالك وسلم على النبي ( فتبسم له النبي ( تبسم المغضب، وقال: "تعالَ" قال كعب فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: "ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت (اشتريت) ظهرك (دابتك)؟" فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيتُ جدلا، ولكني والله لقد علمت إن حدثتُك حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطكَ علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله (: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك".
              فقمت وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: "والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ( بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفارُ رسول الله ( لك.
              قال: فوالله ما زالوا يُؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع فأُكذِّبَ نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مُرارةُ بن الرَّبيع القمريّ، وهلال بن أمية، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسْوة.
              فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله ( المسلمين عن كلامنا من بين من تخلَّف عنه. فاجتبينا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرتْ في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ( فأُسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأُسارِقُه النَّظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
              حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسوَّرْتُ جدار حائط أبي قتادة (أي: تسلقتُ جدار بستانه)، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له، فنشدته فسكت، فعدتُ له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار.
              فبينما أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدُّل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له،
              حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعدُ، فإنه قد بلغني
              أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التَّنُّور (الفرن) فسجرته بها (حرقته). حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله ( يأتيني فقال: إن رسول الله ( يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا. ولكن اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
              فجاءت امرأة هلال بن أمية، رسول الله ( فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا، ولكن لا يقربك". قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله ( في امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله (، وما يدريني ما يقول رسول الله ( إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. فلبث بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله ( عن كلامنا.
              فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحُبت، سمعت صوت صارخ ينادي بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء فرج.
              فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبي، فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله (، فيلقاني الناس فوجًا فوجًا، يهنئوني بالتوبة يقولون: لتَهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس، وحوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
              فلما سلمت على رسول الله ( قال رسول الله ( وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك" قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عندك الله؟ قال:"لا، بل من عند الله". وكان رسول الله ( إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
              فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله. إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك". قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. فقلت يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله ( أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ( إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت.
              وأنزل الله على رسوله (: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذي اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليبوبوا إن الله هو التواب الرحيم) [التوبة: 117-118].
              فوالله ما أنعم الله على من نعمة قط -بعد أن هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله ( أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسفين) [التوبة: 95-96]. وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله ( حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول اله ( أمرنا حتى قضى الله فيه، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه. [البخاري].
              هدم مسجد الضرار:
              عاد المسلمون من تبوك، وإذا بالنبي ( يأمرهم بحرق مسجد بناه المنافقون ليدبروا فيه المكائد ضد المسلمين، وأرادوا أن يصلي فيه النبي (، ولكن الله تعالى نهاه عن ذلك، فقال تعالى: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدًا) [التوبة: 107-108].

              تعليق


              • #37
                رد: السيرة النبوية

                دعوته ( الملوك إلى الإسلام
                بدأ رسول الله ( يبعث برسائله إلى ملوك وحكام العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام، فأرسل ( إلى النجاشي ملك الحبشة عمرو بن أمية الضمري، فوضع النجاشي الرسالة على عينيه، ونزل عن سريره تواضعًا واحترامًا له واعتنق الإسلام وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته.
                وأرسل إلى المقوقس حاكم مصر حاطب بن أبي بلتعة، فأحسن المقوقس استقباله، وأعطاه هدايا كثيرة للنبي ( وجاريتين، وبغلة، وطبيبًا، ولكنه لم يدخل الإسلام خوفًا على ملكه.
                وأرسل دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل ملك الروم، فسلمه دحية كتاب النبي ( الذي يقول فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهُدَى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (عامة الشعب)، (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [آل عمران: 64] [البخاري].
                فجمع هرقل وزراءه وحاشيته وقال لهم: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملكُكُم فتبايعوا هذا النبي (؟ فثارت الحاشية، ورفعوا الصليب وأعلنوا عصيانهم، فلما رأى هرقل ذلك يئس من إسلامهم، وخاف على نفسه وملكه، فقام بتهدئتهم، ثم قال: إني قلت مقالتي آنفًا لأختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت. فسجدوا له، ورضوا عنه. [البخاري].
                أما كسرى ملك الفرس، فقد بعث إليه النبي ( بكتاب مع عبد الله بن حذافة، وآمن بالله وقد جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإني أدعوك بدعاء الله، وإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، وإن توليت فإنما إثم المجوس عليك" [ابن إسحاق].
                فمزق كسرى الرسالة، وأرسل لنائبه على اليمن يأمره بأن يرسل رجلين يأتيانه بمحمد (، ووصل الرجلان لتنفيذ المهمة، وإذا بالنبي ( يخبر الرجلين أن الله مزق ملك كسرى كما مزق كتابه، وعاد الرجلان إلى اليمن فوجد أن كسرى قد قتله ابنه، فدخلا في الإسلام.

                تعليق


                • #38
                  رد: السيرة النبوية

                  مجيء الوفود إلى الرسول (
                  في العام التاسع الهجري أقبلت وفود العرب من كل مكان إلى المدينة لتبايع رسول الله ( على دخول الإسلام، وعلى السمع والطاعة. وكان رسول الله ( يرسل مع كل وفد من يعلمهم أمور الدين، ويجمع منهم الزكاة ويوزعها على فقرائهم.
                  وجاء وفد ثقيف الذين تركهم المسلمون في غزوة الطائف، ودعا رسول الله ( لهم بالهداية. جاءوا بأنفسهم من غير قتال إلى المدينة، بعد أن رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من المسلمين فبايعوا كلهم وأسلموا، وأرسلوا وفدًا منهم يرأسهم كنانة بن عبد ياليل، فلما قربوا من المدينة قابلهم المغيرة بن شعبة، فاستقبلهم وعلمهم كيف يُحيُّون الرسول ( عند دخولهم عليه.
                  وأنزل رسول الله ( وفد ثقيف في المسجد، وبنى لهم خيامًا لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، ومكث الوفد أيامًا يذهبون إلى رسول الله (، ويذهب إليهم ليعلمهم مبادئ الإسلام، وكان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء فيقف عليهم يحدثهم، وكان في هذا الوفد عثمان بن أبي العاص، وكان أصغرهم، فكانوا إذا ذهبوا إلى مجلس رسول الله ( تركوه على رحالهم.
                  فكان عثمان كلما رجع الوفد وناموا وقت الظهيرة، ذهب إلى رسول الله ( فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن، وذهب إليه عثمان على ذلك مرات كثيرة، وكان إذا وجد رسول الله ( نائمًا ذهب إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله ( وأحبه. وأخيرًا دخل الإسلام أفئدتهم، ولكن كنانة بن عبد ياليل قال لرسول الله (: أفرأيت الزنا فإنا قوم نغترب ولابد لنا منه؟. قال: "هو عليكم حرام، فإن الله يقول: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) [الإسراء: 32].
                  قالوا: أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها؟ قال: "لكم رءوس أموالكم، إن الله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) [البقرة:278].
                  قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لابد لنا منها؟ قال (: "إن الله حرمها، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) [المائدة: 90]. وسألوه أيضًا أن يضع عنهم الصلاة، فقال رسول الله ( لهم: "لا خير في دين بلا صلاة"
                  [ابن إسحاق].
                  وخلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في الأمر ثم عادوا إلى رسول الله (، وقد خضعوا لذلك كله، ولكنهم سألوه أن يترك لهم وثنهم (اللات) الذي كانوا يعبدونه ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى رسول الله ( ذلك، فما زالوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها إلى أي أجل، فقالوا للرسول: فتول أنت إذن هدمها، فأما نحن فإنا لا نهدمها أبدًا.
                  فقال لهم:"سأبعث لكم من يكفيكم ذلك". ثم استأذنوا النبي (، فأذن لهم، وأكرمهم وحياهم، وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام، وكان قد تعلم سورًا من القرآن قبل أن يخرج. [ابن إسحاق]
                  وبعث رسول الله ( إليهم وفدًا على أثرهم، أمَّر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة وأبو سفيان بن حرب، فعمدوا إلى اللات فهدموها، وخرجت نساء ثقيف مكشوفات الرأس، يبكين عليها ويرثينها، وكلما ضربها المغيرة بفأسه كان أبو سفيان يسخر من الصنم ويصانع حزن تلك النسوة اللاتي يندبن ويبكين عليه واهًا لك أهًا لك. [ابن إسحاق]
                  وقدمت وفود كثيرة المدينة، ودخلت في دين الله أفواجًا وجماعات، قال الله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) [النصر].
                  إرسال الولاة والأمراء إلى قبائل العرب:
                  أخذ النبي ( يرسل أمراءه وولاته إلى قبائل العرب يدعونهم، ويعلمونهم الإسلام، الذي انتشر في شبه الجزيرة العربية. وكان ممن أرسلهم معاذ بن جبل
                  -رضي الله عنه-، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، بعثه إلى اليمن، وقال له:
                  "يا معاذ، لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا". [أحمد]، فبكى معاذ خشية فراق
                  النبي (.
                  حج أبي بكر الصديق بالناس:
                  جاء موسم الحج من العام التاسع الهجري، فأمر الرسول ( أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أن يحج بالناس، ونزلت الآيات الأولى من سورة التوبة، يعطي الله فيها للمشركين مهلة أربعة أشهر ليتوبوا ويؤمنوا بالله، وإلا قتلوا؛ لتتخلص مكة وما حولها من الشرك البغيض.
                  وأما من كان له عهد أطول من هذه المدة، وكان حافظًا لعهده مع المسلمين، يوفَّى له بمدة العهد، وهكذا وضع الإسلام حدًّا للوثنية في هذه الأرض الطاهرة، قال تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) [التوبة: 1-2]. ونهى العرب عن الطواف بالبيت الحرام وهم عراة، فقد كان بعضهم يفعل ذلك، ولكن الرسول ( أمر أن يكون هذا العام آخر عام يحج فيه المشركون مع المسلمين، فقال: "ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان". [البخاري].

                  تعليق


                  • #39
                    رد: السيرة النبوية

                    حجة الوداع
                    في العام العاشر الهجري حج الرسول ( مع أمته حجة الوداع؛ ليعلم الناس مناسك الحج في الإسلام.
                    ووقف رسول الله ( بين جموع المسلمين وهم حوالي مائة ألف مسلم يعظهم ويرشدهم. وهذا ربيعة بن أمية بن خلف ذو الصوت القوي العالي يبلِّغ عن رسول الله ( حتى يسمع الجميع، وكان مما قاله رسول الله (: "أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" [مسلم].
                    ونهاهم عن الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وأوصى الرجال بالنساء، يكرمونهن ويحسنون إليهن. ثم قال: "وأنتم تُسْأَلُون عني، فما أنتم قائلون؟" قالوا: إنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال ثلاث مرات: "اللهمَّ فاشهد" [مسلم].
                    وبينما رسول الله ( يتحدث إلى الناس، كان هناك رجل يبكي بكاء شديدًا، إنه أبو بكر الصديق حبيب رسول الله (، وأحب صحابته إلى قلبه، فقد أحس بقرب أجل رسول الله (، فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله.
                    جيش أسامة:
                    وفي شهر صفر من العام الحادي عشر جهز الرسول ( جيشًا كبيرً لتأديب الروم، وأراد رسول الله ( أن يُعلِّم المسلمين درسًا عظيمًا في القيادة، فولَّى على الجيش أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، وهو لم يبلغ العشرين من عمره؛ ليعطي الفرصة للشباب في تولي المهام الصعبة، وتدريبهم على تحمل المسئولية، برغم أن جيش المسلمين كان به كبار الصحابة مثل: أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وغيرهم الكثير -رضي الله عنهم أجمعين-.
                    وضرب الجيش معسكره خارج المدينة، ولكنه عاد بعد أن علم بمرض رسول الله (، ثم بوفاته، ثم سرعان ما خرج الجيش في عهد أبي بكر الصديق
                    -رضي الله عنه- وهزم الروم.

                    تعليق


                    • #40
                      رد: السيرة النبوية

                      مرض الرسول ( ووفاته
                      أصابت الحمى الرسول (، وظل يعاني منها أيامًا، فأمر أبا بكر الصديق أن يصلي بالناس، وكان إذا خرج إلى المسجد استند إلى الفضل بن العباس،
                      وعلي بن أبي طالب.
                      وفي بيت عائشة -رضي الله عنها- اشتد به الوجع، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه، فأمرهم أن يصبوا عليه من سبع قرب مليئة بالماء لم يكشف غطاؤها، لعله يستطيع الخروج إلى الناس فقال: "أهريقوا عليَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتُهُنَ لعلي أعهد إلى الناس" [متفق عليه].
                      قالت عائشة -رضي الله عنها-: فأجلسناه في مخضب (الشيء الذي يغسل فيه الثياب)، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن.
                      ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبه، وكان عاصبًا رأسه، فجلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم. ثم قال: "عبد خَيَّرَهُ بين أن يؤتيه زهرة الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده".
                      فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- إذ علم ما يقصده النبي (، وناداه قائلاً: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فقال (: "على رسلك يا أبا بكر. أيها الناس، إن أمن الناس عليَّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا؛ لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، وإن فرط لكم، وأنا شهيد عليكم. وإني والله ما أخاف أن تشركوا من بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها"
                      [متفق عليه].
                      وعاد رسول الله ( إلى بيته، واشتد به وجعه، وثقل عليه مرضه، وكان إلى جواره قدح به ماء، يغمس فيه يده، ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: "اللهمَّ أعني على سكرات الموت" [الترمذي والنسائي].
                      وكانت وصية رسول الله ( حين حضره الموت: "الصلاة وما ملكت أيمانكم". حتى كان رسول الله ( يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. [ابن ماجة وأحمد]
                      ودعا رسول الله ( فاطمة ابنته فحدثها سرًّا فبكت، ثم حدثها فضحكت، فقالت عائشة لها: ما هذا الذي سارَّك به رسول الله ( فبكيت، ثم سارَّك فضحكت؟ قالت: سارني فأخبرني بموته فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله، فضحكت. [متفق عليه].
                      وفي صلاة صبح يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول في العام الحادي عشر للهجرة، رفع الحبيب محمد ( الستر المضروب على منزل عائشة، فنظر إلى أصحابه وهم يصلون، فسره اجتماعهم ووحدة كلمتهم، ونظر إليه الناس، فاطمأنوا عليه، وظنوا أن صحته قد عادت إليه، ولكنها كانت نظرة الوداع، فما إن حل الضحى حتى خرجت روحه الطاهرة إلى خالقها سبحانه وتعالى.
                      فقالت فاطمة -رضي الله عنها-: يا أبتاه! أجاب ربًّا دعاه. يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه. [البخاري]
                      وتسرب النبأ الأليم في المدينة، فأظلمت جنباتها بعد أن أشرقت، وسعدت بحياة رسول الله ( على أرضها.
                      لقد كان حادثًا مؤلمًا مفجعًا، فها هو ذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يصدق الخبر عندما سمعه، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول
                      الله توفي، وإن رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب
                      موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة. ثم رجع بعد أن قيل قد مات.
                      والله ليرجعن رسول الله (، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهن يزعمون أنه مات!.
                      وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء دخل على الرسول ( في بيت عائشة وهو مغطي في ناحية البيت، فكشف وجهه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي.. أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن يصيبك بعدها موت أبدًا. ورد الثوب على وجهه، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر.. فأنصت. لكن عمر ما زال ثائرًا، فلما رآه أبو بكر كذلك، أقبل على الناس، وشرع يتكلم، فلما سمعه الناس انصرفوا عن عمر وأقبلوا عليه.
                      وحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس.. من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)
                      [آل عمران: 144].
                      لقد مات الرسول ( ولكن بقيت شريعة الله، وسنة رسوله بين المسلمين، ما بقيت السماوات والأرض ضياءً وهدى لكل من استضاء واهتدى.
                      ولكن ماذا بعد موت رسول الله (؟ هل يتفرق المسلمون؟ ويعود العرب إلى كفرهم وأوثانهم؟ لا.. لقد تسلم راية الإسلام رجال الإسلام الذين تخرجوا في مدرسة الرسول (، وفي مسجده. وكان أول خليفة للمسلمين أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الذي تسلم الراية وبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام

                      تعليق


                      • #41
                        رد: السيرة النبوية

                        هديه وخصائصه وشمائله (
                        كان للنبي زوجات، اختارهن الله -سبحانه- ليكن أمهات المؤمنين، وليحملن عبء الدعوة مع الرسول ( وهن: خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، وكانت أول زوجة للنبي (، ولم يتزوج غيرها، حتى توفيت.
                        وسودة بنت زمعة -رضي الله عنها-، وقد تزوجها الرسول ( بعد خديجة. ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنها-. ثم تزوج زينب بنت خزيمة
                        -رضي الله عنها-، وتوفيت عنده (. ثم تزوج أم سلمة هند بنت أبي أمية، وهي آخر نسائه موتًا.
                        ثم تزوج زينب بنت جحش ابنة عمته، التي كانت زوجة لزيد بن حارثة مولى رسول الله (، وكان الله -سبحانه- هو وليها الذي زوجها لرسول الله، وتوفيت في أول خلافة عمر. وتزوج ( جويرية بنت الحارث، ثم تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وقد تزوجها الرسول ( وهي ببلاد الحبشة، وقد دفع النجاشي صداقها، وقدره أربعمائة دينار، وماتت في أيام أخيها معاوية.
                        وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، وهي آخر من تزوج بها.
                        سراريه (:
                        وكان من سراريه ( مارية القبطية، وريحانة، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش، وجارية أخرى أصابها في بعض السبي.
                        أولاده (:
                        وكان له ( من الأولاد القاسم، وزينب، وعبد الله، وإبراهيم، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وكل أولاده من خديجة -رضي الله عنها- إلا إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية.
                        صفة النبي (:
                        كان رسول الله ( فخمًا مفخمًا، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، ليس بالطويل ولا بالقصير، عظيم الهامة، شعره رجل بين الجعودة والسبوطة، فيه تكسير قليل، وافر يجاوز شحمه أذنيه. واسع الجبين، له نور يعلوه، كثيف اللحية، شديد سواد العين، سهل الخدين، ورقيق الأسنان، بين أسنانه فتحات، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم رؤوس العظام، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، رحب الراحة، أملس القدمين ليس فيهما تكسر ولا شقاق، سريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من منحدر، وإذا التفت التفت كله.
                        منطقه (:
                        كان ( دائم الفكر، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يتكلم بجوامع الكلم، يعظم النعمة وإن كانت صغيرة، لا يذم منها شيئًا ولا يمدحه، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، معظم ضحكه أن يبتسم.
                        دخوله (:
                        كان ( إذا دخل منزله قسم دخوله ثلاثة أجزاء، جزءًا لله، وجزءًا لأهله، وجزءًا لنفسه،ثم جزء جزءه بينه وبين الناس، فرد ذلك على العامة والخاصة، لا يدخل عنهم شيئًا.
                        مجلسه (:
                        كان ( لا يجلس ولا يقوم إلا ذاكرًا لله تعالى، يجلس حيث انتهى به المجلس، يعطي كل جلساته نصيبًا، لا يرى في مجلسه أكرم منه، لا ينصرف من كان معه، من سأله حاجة لا يردَّه إلا بها، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، كل الناس عنده في مجلسه سواء، فمجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تذكر فيه العيوب، وكان في مجلسه دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب، ولا فحاش ولا عياب، ولا كثير المزاح، يتغافل عما لا يشتهي.
                        وكان ( في مجلسه يترك الناس من ثلاث: أن لا يذم أحدًا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، يضحك إذا ضحك الحاضرون ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب على قسوته في كلامه ومسألته، ولا يقطع على أحد حديثه.
                        سكوته (:
                        كان سكوته ( على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير، فأما تقديره ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجُمع له ( الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء إلا إذا انتهكت محارم الله.
                        طعامه (:
                        كان ( لا يرد من الطعام ما وجد، ولا يتكلف في طلب ما فقد، فما قرب إليه أكله، وإن عافته نفسه لا يعيبه وتركه، فكان ( يأكل ما تيسر، فإن لم يجد ما يأكله صبر، فكان يضع من الجوع على بطنه الحجر، ويمر الهلال بعد الهلال ولا يوقد في بيته نار، كانت الأرض سفرته، يضع عليها طعامه، وكان يأكل بثلاث أصابع وهو أشرف ما يكون في الأكل، فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة، والجشع يأكل بخمس.
                        وكان ( لا يأكل متكئًا، وكان يسمي الله تعالى أول الطعام، وبحمده آخره فيقول: "الحمد لله حمدًا طيباً مباركًا فيه غير مكفى ولا دموع ولا مستغنى عنه ربنا" [البخاري].
                        شربه (:
                        كان ( يسمّي الله قبل الشرب، ويحمده بعده، وكان أكثر شربه قاعدًا، بل نهى عن الشرب قائمًا، وشرب مرة قائمًا، ليبين أنه يجوز لك إذا كان لحاجة أو عذر، وكان إذا شرب ناول من على يمينه، حتى لو كان من على يساره أكبر منه، لأنه ( يحب التيامن في كل شيء.
                        نومه (:
                        كان ( ينام على الفراش تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة، فعن عباد بن تميم عن عمه قال: رأيت رسول الله ( مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى" [متفق عليه]، وكان فراشه مصنوعًا من جلد قد حشي ليفًا، وكان إذا أراد النوم جمع كفيه ثم ينفث فيهما، ثم يقرأ فيهما (قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه، ووجهه، وباقي جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.[أبو داود والترمذي].
                        وكان ينام على جنبه الأيمن، ويضع يده اليمنى تحت خده، ثم يقول: "اللهمَّ قني عذابك يوم تبعث عبادك" [أبو داود والترمذي]، وكان يقول إذا أوى إلى فراشه: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي" [مسلم والترمذي].
                        وكان ينام أول الليل، ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين، وكانت عينه تنام، ولا ينام قلبه، وكان إذا نام لم يوقظوه حتى يكون هو الذي يستيقظ، وكان إذا نام بالليل، اضطجع على جنبه الأيمن، وإذا نام قبيل الصبح نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه.[الترمذي].
                        ركوبه (:
                        كان ( يركب الخيل والإبل والبغال والحمير، وكان يركب وحده، وربما أردف غيره خلفه على البعير، وكان أكثر ما يركب الخيل والإبل، ولم يكن عنده إلا بغلة واحدة، أهديت له.
                        بيعه وشراؤه (:
                        كان ( يبيع ويشتري، وكان شراؤه أكثر من بيعه وخاصة بعد النبوة، ولا يحفظ له بعد الهجرة بيع إلا نادرًا.
                        وآجر رسول الله ( واستأجر، وكان استئجاره أكثر من إيجاره، وإنما يحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم، وأجر نفسه من خديجة في سفره بمال إلى الشام.
                        وشارك ( غيره في التجارة، واستدان برهن وبغير رهن، واستعار من غيره أشياء، واشترى حالاً ومؤجلاً.
                        معاملته (:
                        كان ( أحسن الناس معاملة للناس، فكان إذا تسلف شيئا قضى خيرًا منه، فقد جاءه رجل يتقاضاه بعيراً، فقال رسول الله (: "أعطوه". فقالوا: لا نجد إلا سنًّا أفضل من سنِّه، فقال الرجل: أوفيتني أوفاك الله، فقال رسول الله (: "أعطوه، فإن من خيار الناس أحسنهم قضاء" [متفق عليه]، وكان إذا قضى ما استلفه دعا لمن سلفه، فقال:"بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء" [أحمد والنسائي وابن ماجة].
                        وكان سمحًا لمن تقاضاه، فقد جاءه رجل يتقاضاه، وأغلظ له القول، فهمَّ عمر بن الخطاب أن يضربه، فقال رسول الله (: "مه يا عمر كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر" [الحاكم].
                        أمور فطرته (:
                        كان ( يعجبه التيامن في كل شيء في ترجله وطهوره وأخذه وعطائه، وكان يجعل اليمين لطعامه وشرابه وطهوره، ويساره لخلائه، وغير ذلك من إزالة الأذى.
                        الحلق: وكان يحب أن يحلق الرأس كله، أو يترك كله، وكان يكره أن يحلق بعضه، ويترك بعضه.
                        السواك: وكان يحب السواك، وكان يستاك مفطرًا وصائمًا، وكان يستعمل السواك في أحيان كثيرة، فكان يستاك عند النوم، وعند الوضوء، وعند الصلاة، وعند دخول المنزل، وكان يستاك بعود الأراك.
                        الطيب: وكان ( يحب الطيب ويكثر منه، وكان ( لا يردُّ الطيب، فقد ورد عنه قوله (: "من عرض عليه طيب فلا يرده" [مسلم].
                        وكان ( يكتحل، وكان ( يختضب، وقد سئل جابر بن سمرة -رضي الله عنه- أكان في رأس النبي ( شيب؟ قال: لم يكن في رأسه شيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا ادهن واراهُنَّ الدهن، وكان يسرح شعره ويزينه أحيانًا، وتزينه وتسرحه عائشة -رضي الله عنها- أحيانًا أخرى.
                        قص الشارب: كان رسول الله ( يقص شاربه، فعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (: "من لم يأخذ من شاربه، فليس منَّا" [النسائي والترمذي].
                        وقد جعل الرسول ( وقتًا لا يترك بعده قص الشارب، فعن أنس قال: وقت لنا النبي ( في قص الشارب وتقليم الأظفار، ألا نترك أكثر من أربعين يومًا وليلة". [مسلم والترمذي والنسائي]
                        ضحكه وبكاؤه (:
                        كان ضحك النبي ( تبسمًا لا قهقهة، وكان يضحك مما يضحك منه الناس، ويضحك مما يتعجب من مثله، ويستغرب وقوعه، أو يكون شيئًا نادرًا الوقوع.
                        وأما بكاؤه فكان حاله كحال الضحك، لا يرفع فيه صوتًا، ولكن كانت عيناه تدمع، ويسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفًا من الله، وتارة خوفًا وشفقة على أمته، وكان يبكي عند سماع القرآن، وبكى عند وفاة ابنه إبراهيم، فلما سئل عن ذلك، قال (: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون" [متفق عليه].
                        خطبته (:
                        خطب الرسول ( على الأرض، وعلى المنبر، وعلى البعير، وعلى الناقة، وكان له جذع نخلة يخطب عليه حتى صنع له منبر، وكان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، كأنه منذر جيش.
                        وكان إذا صعد المنبر أقبل على الناس بوجهه وقال: "السلام عليكم" وكان يختم خطبته بالاستغفار، وكثيرًا ما كان يخطب بالقرآن، فعن أم هشام بنت حارثة، قالت:" ما أخذت (ق والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله ( يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس" [مسلم والنسائي وأبو داود].
                        وكان ( يراعي حالة المخاطبين ومصلحتهم، وكان يفتتح خطبته بالحمد والثناء، ويتشهد فيها بالشهادة، ويذكر فيها نفسه باسمه "محمد" (، وكان إذا قام يخطب أخذ عصا، فتوكأ عليها وهو على المنبر وكان منبره ثلاث درجات فإذا استوى عليه، واستقبل الناس، أذن المؤذن ولم يقل شيئًا قبله ولا بعده، ولا يتكلم أحد أثناء خطبته.
                        وكان إذا عرض له في خطبته شيء عارض، اشتغل به، ثم رجع إلى خطبته، فقد كان يخطب ذات مرة الناس، فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين. فقطع كلامه، فنزل، فحملهما، ثم عاد إلى منبره.
                        وكان خطبته قد تطول أو تقصر بحسب حاجة الناس، ومراعاة أحوالهم، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة.
                        لبسه (:
                        لم يتقيد الرسول ( بلبس نوع معين من الثياب، فقد كان يلبس ما تيسر له من اللباس، سواء أكان من الصوف أو القطن أو الكتان، وقد لبس الرسول ( البرود اليمانية، والبرد الأخضر، ولبس الجبة، والقباء، والقميص، والسراويل، والرداء، والخف، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة، وتركها تارة.
                        وكان من هديه ( إذا لبس ثوبًا جديدًا أن يقول: "اللهمَّ أنت كسوتني هذا القميص أو الرداء أو العمامة، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره، وشر ما صنع له" [أبو داود والترمذي وأحمد].
                        مزاحه (:
                        اشتهر عن الرسول ( أنه كان يمازح أزواجه، ويمازح أصحابه، وكثيرًا ما كان يمازح الأطفال والصبيان، فقد روى أنس أن رسول الله ( أتى لرجل من أصحابه كان يبيع متاعه في السوق، فاحتضنه رسول الله (، ولا يبصره الرجل، فقال الرجل: أرسلني، من هذا؟ فالتفت، فعرف رسول الله (، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره لصدر الرسول ( حين عرفه، وجعل الرسول ( يقول: "من يشتري العبد؟" فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسدًا، فقال (:"ولكن عند الله لست بكاسد، أو قال: ولكن أنت عند الله تعالى غالب" [أحمد]. وكثيراً ما كان الرسول ( يمازح الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، ويحملهما على ظهره.
                        خلقه (:
                        كان رسول الله ( أحسن الناس خلقًا، فكان كما قال الله له: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4]، وقد سئلت السيدة عائشة -رضي الله عنه- عن خلق رسول الله ( فقالت: كان أحسن الناس خلقًا، كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا سخابًا في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت: اقرأ سورة المؤمنين، اقرأ (قد أفلح المؤمنون) إلى العشر، فقرأ السائل قد أفلح المؤمنون، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله (. [مسلم والترمذي]، بل جعل رسول الله ( غاية الرسالة إتمام الأخلاق الحميدة: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (: "إنما جئت لأتمم صالح الأخلاق" [أحمد].
                        وكان ( لين المعاملة حتى مع خدمه، وكان متباسطًا، فقد كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله (، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب حيث شاءت، ويجيب إذا دعا. [البخاري وأحمد]
                        وكان ( أحسن الناس تعليمًا، وأرفق الناس عند نصح أو تعليم الغير. وكان ( يخاطب الناس على قدر عقولهم.
                        حلمه وعفوه (:
                        كان ( أكثر الناس حلمًا، وقد قال له ربه -عز وجل-: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) [الأعراف: 199].
                        ولما نزلت هذه الآية، سأل الرسول ( جبريل عنها، فقال: لا أدري فصعد ثم نزل، فقال: يا محمد، إن الله تبارك وتعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك" [ابن مردويه]. لذلك عفا ( عن أهل مكة عندما فتحها، على الرغم مما فعلوه معه. وحلم الرسول ( كان فيما يتعلق بحق نفسه (، أما إذا كان الحق لله، فإنما كان يتعامل بالشدة؛ لقول الله له: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) [التحريم: 9].
                        حياؤه (:
                        اشتهر رسول الله ( بالحياء، حتى كان الصحابة يعرفون ذلك في وجهه، فعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله ( أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه. [متفق عليه] وكان من حيائه ( أنه لا يسأل من شيء إلا أعطى. [عبد بن حميد].
                        رحمته وشفقته (:
                        وصف الله رسوله ( بالرحمة، فقال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107]، ومن رحمته ( أنه كان كثير الدعاء لأمته. وعرف عنه ( رحمته بالصغار، وكان يخفف صلاته بالناس إذا سمع بكاء طفل رحمة بأمه.
                        وعرف عنه ( الرحمة والشفقة بالنساء، وأوصى بهن خيرًا.
                        تواضعه (:
                        أمر الله تعالى رسوله ( بالتواضع، فقال له: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) [الشعراء: 215].
                        وقد اشتهر عنه ( التواضع، فكان ( يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعقل الشاة، ويجيب الضعيف والمسكين إلى الطعام [الحاكم]. ومن تواضعه ( أنه كان ينقل التراب يوم الأحزاب، وقد وارى التراب بياض إبطه. [البخاري].
                        وكان ( إذا سار مع أصحابه لا يسير أمامهم، بل يسير وسطهم أو خلفهم. [أحمد]، وكان ( لا يرد دعوة إنسان، بل كان يقول (: "لو دعيت إلى كراع لأجبت" [الخطيب]. وكان ( لا تغلق دونه لأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، فكان يقوم لكل من أراده، ويقضي حاجة من يطلب منه المساعدة.
                        وكان من تواضعه ( أنه كان يمر على الصبيان، فيسلم عليهم. ولما دخل ( مكة منتصرًا، دخلها وهو راكب دابته، وذقنه على رحله متخشعًا. [الحاكم]. وكان رسول الله ( إذا استقبله الرجل وصافحه، لا ينـزع يده عن يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينـزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له.
                        [الترمذي وابن ماجة].
                        وكان من تواضعه ( أنه لا يحب الثناء الكثير عليه، ولا يحب أن يقوم إليه أحد.
                        شجاعته (:
                        فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس نحو الصوت، فتلقاهم رسول الله( راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول:" لم تراعوا، لم تراعوا، ما وجدت من شيء" [ابن سعد].
                        وكان الرسول ( أشجع ما يكون في الحرب والقتال، فكان يثبت إذا فرَّ الناس، وقد كان الصحابة يعرفون شجاعة النبي(، بل كانوا يحتمون به وقت الشدة.
                        كرمه وجوده (:
                        اشتهر رسول الله ( بالجود والكرم، وما سئل(، فقال لا. [متفق عليه]
                        وقد امتدح الشاعر الفرزدق النبي ( في كرمه وجوده فقال:
                        ما قال لا قطُّ إلا في تشهُّده لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ
                        وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ما سئل رسول الله( شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى أهله، فقال: يا قوم، أسلموا، فإن محمدًا( يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وإن كان الرجل ليجئ إلى الرسول( وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما فيها. [مسلم].
                        خوفه وخشيته (:
                        كان رسول الله( شديد الخشية لله، تقول عائشة -رضي الله عنها-: ما رأيت رسول الله ( مستجمعًا قط ضاحكًا، حتى ترى لهواته، إنما كان يتبسم.
                        وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قرأ رسول الله ( سورة الإنسان (هل أتى) حتى ختمها، ثم قال: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء، وحقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم، بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى، والله إني لوددت أني شجرة تعضد" [الحاكم].
                        شمائله (:
                        كان لرسول الله ( بعض المعجزات والبركات، منها تكثير الماء بين يديه (، فقد أوتي ( بإناء فيه ماء، فوضع فيه يده، وجاء الصحابة فتوضئوا منه، وكانوا أكثر من ثلاثمائة، ومنها تكثير اللبن في الإناء كما حدث مع أبي هريرة -رضي الله عنه- وأهل الصُفَّة، وكم من مرة وضع يده على شاة لا تحلب فحلبت، وسيرته في تكثير الماء والطعام من أن تحصى، بل كان الطعام والشراب يسبحان بين يديه (، وقد سمع الصحابة التسبيح.
                        ولما اتخذ الرسول ( منبرًا، وترك جذع النخلة الذي كان يخطب عليه، حنَّ الجذع إليه، وصاح صياح الصبي حتى تصدع وانشق، فاحتضنه الرسول (.
                        [أحمد والترمذي].
                        وقد سبح الحصى في يديه، فسمع الصحابة له صوتا كصوت النحل، ثم وضعه في كف أبي بكر فسبح، ثم في كف عمر، ثم في كف عثمان، فسبح. [الطبراني والبيهقي].
                        وقد وقف الرسول ( ومعه العشرة المبشرون بالجنة على جبل حراء، ففرح الجبل، فأمره الرسول ( أن يثبت ويهدأ. [البخاري].
                        ولما دخل الرسول ( مكة عند فتحها، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، فأشار إلى كل صنع بعصا، وقال: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 81]، فكان كل صنم يسقط دون أن يلمسه الرسول ( بالعصا. [متفق عليه]
                        وكان للنبي ( معجزات مع الحيوانات، فقد هاج جمل عند حائط من حوائط بني النجار، لا يستطيع أحد أن يمسكه، فجاء النبي (، ونادى الجمل، فأتى إلى الرسول ( وبرك بين يديه. [مسلم]
                        وجاءه ( جمل، قد جرح، وذرفت عيناه، فمسح رسول الله ( من رأسه إلى سنامه، فسكن الجمل، ثم قال لصاحبه: "أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكتها، إنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه" [أحمد ومسلم].
                        واشتكى علي بن أبي طالب إلى الرسول ( وجع عينيه، وكان الرسول ( قد أراد أن يعطيه راية خيبر، فبصق رسول الله ( في عينيه، ودعا له، فشفي حتى كأن لم يكن به مرض. [متفق عليه]
                        خصائصه (:
                        وقد اختص الله رسوله ( بكثير من الخصائص، أهمها: أن الله قد أخذ الميثاق على النبيين أن يؤمنوا به وينصروه ويبشروا به أممهم، وقد جاء وصف الرسول ( في الكتب السابقة، كما وصف أصحابه أيضا، كما أن الملائكة أظلته في سفره (، وأنه ( أرجع الناس عقلاً، وأنه رأى جبريل -عليه السلام- مرتين.
                        وخصه بأنه خاتم الأنبياء، وسيد الناس، وأكرم الخلق، وأنه بعث للناس كافة، وأن الجن آمنت به وأنه أرسل رحمة للعالمين، وأن شرعه مؤبد غير منسوخ، وأنه ناسخ لما قبله من الشرائع، وأنه نصر بالرعب مسيرة شهر، وأنه من صلى عليه مرة، صلى الله عليه به عشرا، وأن صلاة أمته تبلغه هو في قبره، وأنه أوتي جوامع الكلم، وجمع الله له القبلتين، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.
                        وخصه الله دون الأنبياء بأشياء أهمها: إحلال الغنائم له، والأرض كله مسجد، والتراب طهور، وغير ذلك من الخصائص التي لا تعد ولا تحصى، مما اختص الله سبحانه وتعالى به نبيه .
                        تم ولله الحمد

                        تعليق

                        يعمل...
                        X